کان الکلام في مستثنيات حرمة النظر واللمس، وقد وصلنا الى استعراض الادلة فيها، وذکرنا الدليل الاول، والذي هو عبارة عن القاعدة العقلية والعقلائية بلزوم تقديم الاهم على المهم. وقد مثلنا لها بالعمليات الجراحية التي يتقبلها الانسان لأجل الفرار من تلف النفس او تلف عضو من اعضاء بدنه. اذن الانسان يأخذ بالأهم ويترک المهم في حياته الشخصية. وفي اوامر المولى الامر کذلک، فلو دار الامر بين ان نمتثل هذا الامر من اوامر المولى او نمتثل ذاک الامر فان العقل يحکم هنا والعقلاء ايضاً سيرتهم جرت على لزوم امتثال الاهم وترک المهم.
ولهذه القاعدة شواهد وامثلة کثيرة في الآيات والروايات، منها:
1. مسألة اکل الميتة التي اشير اليها في القرآن الکريم، فهي داخلة تحت قاعدة الاهم والمهم، لأن حفظ النفس اهم في نظر المولى من حرمة اکل الميتة.
2. مسألة التقية، والتي اشير اليها في الآيات وفي الروايات. وجميع العقلاء يلومون من يظهر عقيدته الواقعية امام المتعصبين والظالمين ويعرض بذلک حياته للخطر. فهذا ايضاً مصداق من مصاديق قاعدة الاهم والمهم، وعلى هذا الشخص ان يظهر البراءة مثلاً من العقيدة التي تسبب له الاذية لاجل ان يحفظ نفسه، لأن حفظ النفس والقوى اهم في نظر المولى.
3. مسألة جواز الغيبة عند المشورة، والتي عدها الکثير من فقهائنا من مستثنيات الغيبة.
4. مسالة جواز الکذب لاصلاح ذات البين، والتي قال بها ايضاً الکثير من فقهائنا.
5. جواز اکل مال الغير في المخمصة، والمخمصة هي حالة القحط والجوع العام، فلو فرض في هذه الحالة ان شخصاً ممن کان عندهم طعام ومواد غذائية امتنع عن بيع او اقراض هذه المواد فانه يجوز حينئذ لأجل حفظ النفس عن التلف أکل مال هذا الشخص ـ طبعاً مع الضمان ـ.
وکل هذه الامثلة تدخل تحت عنوان الضرورة وتحت عنوان الاهم والمهم.
وهذه القاعدة مرکبة من صغرى وکبرى من الشکل الاول، فنقول: ان هذا اهم من ذاک وکل اهم يرجّح على المهم. ولم يقع بحث اصلاً في کبرى هذه القاعدة، وان کان هناک من بحث فانما هو في صغراها، کما مر عن بعض علماء العامة الذي اشترط في الجواز خوف فساد العضو او فوات النفس، فمناقشته انما هي في الصغرى، وانه ما لم يکن هناک خوف الفساد مثلاً لا يکون المورد من مصاديق صغرى الاهم والمهم، فهو يرى ان حرمة النظر واللمس في مثل هذا المورد اهم من ذاک المرض الجزئي.
فالکبرى لا مشکلة فيها اصلاً لأنها قاعدة عقلية قطعية وايضاً قاعدة عقلائية مسلمة بين جميع الناس، حتى اولئک الذين لا يعتقدون بمذهب معين، فانهم يحکمون هذه القاعدة في اوامر ونواهي مواليهم ورؤسائهم.
وعليه فکلما فهمنا من مذاق الشارع ان هذه المصلحة اهم من مفسدة النظر واللمس فاننا نحکم بالجواز واستثنائها من الحکم بالحرمة.
وهذا الدليل جيد جداً ينفعنا في المقام وفي تمام المباحث الفقهية التي يدور فيها الامر بين المحذورين.
ولابد هنا من اضافة نکتة قبل الانتقال الى الدليل الثاني وهي ان قاعدة الاهم والمهم من العناوين الثانوية تماماًمثل قاعدة الاضطرار وقاعدة الضرورة واکل الميتة وقاعدة التقية.
لان اکل الميتة بحسب العنوان الاولي حرام، وکذا الغيبة، وکذا الکذب. والنظر أو لمس غير المحارم حرام بالعنوان الاولي الا انه بناءً على قاعدة الاهم والمهم نقول بجوازهما. اذن هي من العناوين الثانوية.
الدليل النقلي:
دليلنا الثاني في هذه المسألة هو الاخبار التي تدل على المستثنيات في بحث النظر واللمس، وهي على طائفتين، الطائفة الاولى اخبار عامة تدل على المطلوب بشکل عام. والطائفة الثانية عبارة عن بعض الاخبار الخاصة الواردة في خصوص اللمس والنظر عند الضرورة.
الطائفة الاولى:
وفي هذه الطائفة روايات عديدة بعضها معتبر وبعضها ضعيف، لکنها من حيث المجموع متظافرة وبتظافرها تنحل مشکلة السند.
الرواية الاولى: الحديث (7) من الباب الاول من ابواب القيام من الوسائل ـ عن ابي بصير قال: (سألت ابا عبد الله عليه السلام عن المريض هل تمسک له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال: لا، الا ان يکون مضطراً ليس عنده غيرها).
والشاهد في هذه الرواية هو هذا المقطع (وليس شيء مما حرم الله الا وقد احله لمن اضطر اليه) وهذه قاعدة کلية. وقد عدها العلامة المجلسي في بحار الانوار من القواعد الکلية التي وصلتنا عن الائمة عليهم السلام.
ودلالة هذه الرواية جيدة جداً، الا انها وللأسف تعاني من ضعف السند، اذ في سندها على الاقل ثلاثة ممن وضعهم مبهم، احدهم فضالة، حيث ان هناک عدة اشخاص بهذا الاسم، احدهم فضالة بن ايوب الازدي الثقة.
ولا يبعد ان يکون هو المقصود هنا، لان الراوي عنه هنا هو الحسين بن سعيد الاهوازي والذي کان من تلامذة فضالة بن ايوب. والحسين بن سعيد ثقة هو واخوه الحسن بن سعيد، وروايات الحسين ظاهراً اکثر من روايات اخيه. وفضالة بن ايوب الازدي هو من الکبار ومن الثقات وله تقريب التسعمائة رواية في الکتب الاربعة.
والشخص الثاني المجهول في هذا الحديث هو (حسين)، ولم نصل الى قرينة واضحة تثبت کونه حسين بن عثمان الرواسي الثقة.
والشخص الثالث هو ابو بصير، لأنه مشترک.
فاذا حلت مشکلة ابي بصير واستطعنا تعيينه في مَن هو ثقة وکذا حلت مشکلة فضالة تبقى حينئذ مشکلة حسين. ولذا رأيت صاحب الجواهر (قده) في المجلد التاسع من الجواهر في مبحث القيام في الصلاة يعبر عن هذه الرواية بخبر ابي بصير، وعادة صاحب الجواهر (قده) حين التعبير بذلک تدل على ان هناک مشکلة في السند بحسب نظره المبارک، وانا احتمل ان المشکلة التي يراها (قده) في سند هذه الرواية هي من ناحية (حسين).
اذن سند هذه الرواية فيه دغدغة واشکال لکن دلالتها جيدة، وتصلح مؤيداً للأحاديث الآتية.
الرواية الثانية: الحديث (6) من الباب الاول من ابواب القيام ـ وسندها معتبر الا انها مضمرة، ولکن مضمرات سماعة کما تعلمون لا مشکلة فيها، لأن لسماعة کتاباً يقول في اوله (سألت الصادق عليه السلام) ثم بعد ذلک يعطف فيقول: (وسألته). فمرجع الضمائر في سألته هو الامام الصادق عليه السلام او الامام الباقر عليه السلام.
عن سماعة قال: (سألته عن الرجل يکون في عينيه الماء فينتزع الماء منها) وهذا يدل على انه في زمان الامام الصادق عليه السلام کانت تجري العمليات الطبية لنزع الماء من العين، طبعاً حقيقةً لا يوجد ماء وانما الموجود عبارة عن الظلمة التي تصيب عدسة العين نتيجة جفاف العين، وفي القديم ـ کما سيذکر في الحديث ـ کان الذي يجري هذه العملية لابد ان يبقى مرتاحاً لمدة اربعين يوماً، وأما في زماننا فانه لا يحتاج الى ذلک اصلاً (فيستلقي على ظهره الايام الکثيرة: اربعين يوماً او اقل او اکثر، فيمتنع من الصلاة الايام) والألف واللام هنا للعهد (الا ايماءً وهو على حاله، فقال: لابأس بذلک، وليس شيء مما حرم الله الا وقد احله لمن اضطر اليه).
وهذه الرواية جيدة من حيث السند والدلالة.
الرواية الثالثة: الحديث الاول من الباب الاول من ابواب الاطعمة المحرمة ـ وهذه الرواية ظاهرها انها غير عامة، الا انه يمکن کشف العموم فيها مع بعض التدقيق. عن المفضل بن عمر، وهناک بحث کثير حول المفضل وانه ثقة او لا؟ قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام لما حرم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟) فأجابه الامام عليه السلام بشرح مفصل لا نذکره لطوله، الى ان قال عليه السلام: (ثم أباحه للمضطر اليه) والحکم هنا ورد على الوصف، والوصف هنا مشعر بالعلية، بل لعله ازيد من الاشعار، أي انه يدل على العلية (واحله له في الوقت الذي لا يقوم بدنه الا به) وهذا ايضاً من قبيل الوصف المشعر بالعلية.
فهل ان هذه الرواية تختص بما ذکر فيها من اکل الميتة ولحم الخنزير…
ام انها تشمل اللمس والنظر في مقام المعالجة والضرورة ايضاً؟
الانصاف ان کل من يقرأ قوله عليه السلام (للمضطر) و (الذي لا يقوم بدنه الا به) يفهم ان هذه الرواية تعطي قاعدة عامة.
والامام عليه السلام في الرواية يشکل في انحصار الشفاء بتناول الخمر لأنه دائماً يوجد هناک عدل وبديل ومشابه له، وغالباً الأمر کذلک، أي انه دائماً يوجد مشابه وبديل عن الخمر، الا انه لو اجتمع جميع الاطباء مرة وقالوا بأن هذا المريض ـ استثناءً ـ لا علاج له الا بالخمر فاننا حينئذ نقول بجواز تناوله، اعتماداً على القاعدة الکلية التي ذکرناها. والروايات تذکر حکم الغالب، فغالباً يوجد عدل وبديل للخمر، الا ان يفرض مثلاً ان انساناً کان في وسط الصحراء وانتهى الماء من عنده ولم يبق ما يمکن شربه الا الخمر فحينئذ يجوز له شربه بلا اشکال.
وهناک رواية ثالثة قد يتوهم دلالتها على المطلوب ولا دلالة لها، وقد بحثنا في الکمبيوتر حول قاعدة (ما من شيء حرمه الله الا وقد احله لمن اضطر اليه) في تمام البحار والوسائل فلم نجد غير هاتين الروايتين. ففي البحار يذکر هذا المضمون في خمسة امکنة تقريباً، وفي الجميع وجدنا انها موثقة سماعة، بينما في الوسائل يذکر روايتي سماعة وابي بصير. وأکثر من هذا المقدار لا يوجد في الروايات.
لکن الانصاف انه يمکننا ان نثبت هذه القاعدة الکلية من الروايات المختلفة والتي بعضها معتبرة السند وبعضها ليست کذلک الا انها تصلح مؤيداً کما ذکرنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
لا يوجد تعليق