بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين
تتمة البحث في استحباب النکاح
کان البحث في استحباب النکاح، وانتهينا الى أن البعض قد قيدوا استحبابه بالاشتياق، فلا يستحب النکاح لمن لا يختلف الحال لديه إن تزوج أو لم يتزوج، بل أن البعض کالشيخ الطوسي في المبسوط ذهب الى أکثر من ذلک حيث قال: أنه يکره النکاح لمن لا يشتاقه. وقد کنا في مقام بيان مصدر هذا المطلب، حيث أن الزواج شئ يستحسنه العقل وتنص عليه آيات القرآن، والشريعة المقدسة وکلمات المعصومين (ع) لا يوجد فيها أي تقييد من هذا القبيل، وبالنهاية لابد للشباب من أن يتزوجوا، والنکاح رغم أنه مستحب بالذات إلا أنه في بعض الموارد قد يکون واجباً، فمن أين اذاً أتى هذا التقييد بالاشتياق أو حتى القول بالکراهة؟
أدلة القائلين بتقييد استحباب النکاح بالإشتياق
استدل القائلون بتقييد استحباب النکاح بالاشتياق بثلاثة أدلة، والعمدة فيها هو الدليل الاول.
الدليل الاول: ما ورد في القرآن الکريم حول قصة النبي يحيى (ع) من مدح وثناء، ففي الآية 39 من سورة آل عمران قال تعالى: {وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين} وقيل بأن "حصور" تطلق على الشخص الذي لا يرغب في الزواج أصلاً أو الذي لم يتزوج أصلاً، وبما أنه قد مدح يحيى (ع) بأنه حامل لهذا الوصف فلابد ـ على الاقل ـ من القول بعدم استحباب النکاح لمن لا يشتاقه.
ولنا على هذا الاستدلال أربع أجوبة.
الجواب الأول: أنه من الممکن أن تکون هذه قضية في واقعة، فإن مدح شخص لأجل صفة يتصف بها لا يسبب أن تکون هذه الصفة قانوناً کلياً، وحياة يحيى (ع) کانت حياة خاصة مثل حياة السيد المسيح (ع)، حيث کانا عليهما السلام دائمي التنقل من مکان لآخر لأجل تبليغ الرسالة الإلهية، فلذلک لم يتزوجا (ع)، ولعلهما کانا سيتزوجان (ع) بعد أن تثمر حرکتهما التبليغية. إذاً هذه من قبيل قضية في واقعة. وبعبارة أخرى: هذه القضية کانت من قبيل العنوان الثانوي، فالعنوان الاولي هو الاستحباب المطلق، لکن بسبب بعض العوارض يمکن أن توجد عناوين أخرى مثل الوجوب أو الحرمة أو الکراهة، وهذا يعود الى ما ذکرناه في أصل المسألة من الانقسام الى أقسام خمسة بسبب العوارض والعناوين الثانوية.
الجواب الثاني: هو أن نأتي الى کلمة "حصور" لنرى أن معناها ينحصر بـ"من لا يأتي النساء" أو أن لها معان متعددة في اللغة. وعندما نرجع الى ما ذکره أرباب اللغة وما ذکره الشيخ الطوسي في ذيل هذه الآية في تفسيره "التبيان" وأيضاً ما ذکره المرحوم الطبرسي في "مجمع البيان" نجد أن لهذه الکلمة ستة معان على الاقل هي:
المعنى الاول: العنين، وهو من لا يقدر على النکاح أصلاً، أي من يعاني من العجز الجنسي.
المعنى الثاني: من لا يعاني من عدم القدرة الجنسية لکن لا ميل لديه للنکاح إما لأنه لا يرغب به وإما أنه يرغب به لکن ظروفه تمنعه من الزواج. فيقال لمثل هذا الشخص أنه حصور باعتبار أنه حاصر نفسه أو أنه محاصر فلا يميل الى الزواج.
المعنى الثالث: قيل أنه الذي يمتنع أن يخرج مع الندماء شيئاً للنفقة، وکأن المقصود هو الاشارة الى اولئک الاشخاص الذين لا يخرجون معهم في السفر إلا القليل من النفقة التي لا تکفي إلا لأنفسهم ولا يحسبون حساب رفقائهم في السفر، أي البخلاء.
المعنى الرابع: الذي يحصر نفسه عن الشهوات، والظاهر أن المراد هو الاعم من الشهوة الجنسية، أي العفيف. فالحصور هو من يحاصر نفسه في مقابل مراداتها وطغيان شهواتها.
المعنى الخامس: الذي يکتم سرّه، ويقال له الکتوم والحصور بإعتبار محاصرته لنفسه لکي لا تفشي السر.
المعنى السادس: الذي لا يدخل في اللعب والاباطيل.
وعدة من هذه المعاني ليست من شأن الانبياء وليست من مقامات المدح، مثل العنين والبخيل، إذ هذه من العيوب لا من المحاسن، أما بقية المعاني فهي مما تليق بشأن الانبياء، فيمدح النبي بأنه کتوم للسر وأنه ممن يمسک نفسه عن الشهوات وأنه لا يدخل في اللعب والاباطيل. وأي مانع من أن تکون هذه المعاني هي المقصود في الآية الشريفة؟
صحيح أنه في بعض الروايات ورد تفسيره بالذي لا يأتي النساء، إلا أن ذلک يمکن تفسيره بشکل سوف يأتي بيانه في الاجوبة الآتية.
وعلى هذا فکلمة "حصور" لا ينحصر معناها في معنى واحد، بل لها معان متعددة، وعلى الاقل الآية فيها ابهام من هذه الناحية.
والنتيجة هي أن هذه الآية لا تخلو عن إجمال، ونحن لا يمکننا أن نفعل کما فعلتم أنتم حيث أوقعتم معارضة بين ما هو مجمل وبين الآيات کقوله تعالى: {انکحوا الايامى منکم والصالحين من عبادکم وامائکم} وغيرها من الروايات المادحة والحاثة على الزواج. فنحن في مقابل هذه المحکمات لا يمکننا أن نعتمد على شئ متشابه.
الجواب الثالث: إن المدح قد يکون في بعض الاحيان على المنکشف لا الکاشف، فنمدح الصفة التي هي في داخل الانسان رغم أن الکاشف عنها قد لا يکون أهلاً للمدح، کما لو أردنا ان نمدح تسلط إنسان على نفسه في محيط مليئ بالفساد فقلنا انه قد بلغ الاربعين ولم يتزوج، فنحن لا نريد أن نمدح عدم زواجه بل نريد أن نمدح تسلطه على نفسه في ذاک الجو المليئ بالفساد، فالمدح کان على تلک الصفة النفسانية التي يکشف عنها عدم الزواج الى الاربعين.
وأنا أحتمل أن يکون هذا هو المقصود من الرواية المفسرة للحصور بمن لا يأتي النساء، فهي تريد أن تمدح تلک الصفة النفسانية التي کان يتحلى بها يحيى (ع) لا انها تمدح عدم زواجه من حيث هو.
الجواب الرابع: هو أن يقال أنه لو فرض أن ذلک کان ثابتاً وممدوحاً في شريعة يحيى (ع) فما علاقة ذلک بشريعتنا، وکم من المسائل کانت موجودة في الشرائع السابقة وليست موجودة في شريعتنا، فإن کان هذا البرنامج موجوداً في شريعته وعمل به (ع) فهو حينئذ يستحق المدح بلحاظ ذلک.
إن قلت: أنه يمکننا أن نجري استصحاب الشرائع السابقة، حيث انه في بحث الاستصحاب يوجد استصحاب يقال له استصحاب الشرائع السابقة، فما هو موجود في شريعة يحيى (ع) نستصحبه الى شريعتنا ، کما أن الشيخ الانصاري وغيره من الاعلام عندما يبحثون في تنبيهات الاستصحاب يتعرضون لإستصحاب الشرائع السابقة ويذکرون له عدة مدارک منها قصة نبي الله يحيى (ع).
قلنا: أنه يمکن الاجابة بجوابين:
الجواب الاول: إن الاستصحاب إنما يجري في مورد الشک (لا تنقض اليقين بالشک) ونحن في هذه المسألة لا شک لدينا، فنحن نعلم بأن الزواج أمر مطلوب في الاسلام، بينما حياة العزوبة مبغوضة، وهناک روايات کثيرة في هذا المجال إلا ان أياً منها لا يذکر شرطية الاشتياق، فالروايات مطلقة من هذه الناحية. وعلى هذا يکون المورد من موارد (بل انقضه بيقين آخر) حيث اننا نتيقن بمطلوبية النکاح في شريعتنا، فلا مجال لإجراء استصحاب الشرائع السابقة.
الجواب الثاني: اننا قد ذکرنا نکتة في مبحث الشرائع السابقة وفي نظري أنها نکتة مهمة وهي: أن الشريعة التي تنسخ تُنسخ معها تمام أحکامها، فلا يجري احتمال بقاء شئ منها ليجري إستصحابه، والدليل على ذلک هو أن المسلمين حينما کانوا يواجهون مسألة جديدة لا يعرفون حکمها کانوا يسألون عنها من النبي (ص)، فيجيبهم (ص) أني انتظر الوحي في شأنها، ولم يجبهم(ص) ولو لمرة واحدة أن اذهبوا واعملوا بحکمها في الشريعة السابقة، فيعلم انه بنسخ الشريعة السابقة تنسخ معها تمام أحکامها.
وشبيه هذا الشئ يحصل عند قيام الثورات، فعندما قامت الثورة الاسلامية تم تنظيم قانون أساسي جديد رغم أن هذا القانون فيه الکثير من المشترکات مع القانون السابق کما في أحکام الاقليات وغيرها من المسائل، إلا أن کل ذلک أعيد بحثه والمصادقة عليه في القانون الجديد.
وشرب الخمر مثلاً کان محرماً قطعاً في الشرائع السابقة إلا أن تحريمه في الاسلام تم على مراحل أربع، فيعلم بذلک أنه لم يکن يبنى على استصحاب الشرائع السابقة، بل کل شريعة جديدة لها أحکامها الجديدة.
فعلى ذلک لا تکون أرکان الاستصحاب تامة هنا، بإعتبار أننا نقطع بنسخ تمام أحکام الشرائع السابقة، والاستصحاب إنما يجري في مورد الشک، اذاً التمسک بالاستصحاب هنا غير صحيح.
تفسير قوله تعالى: {مصدقاً لما بين يديه}
وأما قوله تعالى: {مصدقاً لما بين يديه} فهو لا يستفاد منه الدلالة على بقاء الشرائع السابقة. وقد ذکر في تفسير "الامثل" معنى خاص لکلمة (مصدقاً) هو (متابع)، بمعنى أنه قد ذکرت للنبي (ص) وللقرآن علائم في الکتب السماوية السابقة، وعندما بعث النبي (ص) وأوحي اليه بالقرآن کان مصدقاً ومتابعاً لتلک العلائم في الکتب السابقة أي مطابقاً لها، والقرآن يقول لليهود والنصارى أنه لماذا لا تقبلون بهذا النبي الذي تجدون علائمه وعلائم کتابه عندکم في کتبکم، فالمقصود من قوله تعالى: {مصدقاً لما بين يديه} هو مطابقاً لما ورد فيها من الامارات والعلامات.
هذا کله في الدليل الاول الذي ذکروه لتقييد استحباب النکاح بالاشتياق.
الدليل الثاني: هو التمسک بآية من القرآن لا دلالة لها أصلاً على مطلوبهم، إلا اننا مع ذلک نذکرها ونبين الاجابة عنها، وهي قوله تعالى في الآية 14 من سورة آل عمران: {نزين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والانعام والحرث ذلک متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.
قالوا: إن الآية في مقام الذم وتذکر ستة أمور هي من الزينة في نظر الناس والله سبحانه يعبر عنها بأنها {ذلک متاع الحياة الدنيا} وهذا يدل على أن الشهوات ليست شيئاً مطلوباً في نفسه، وهو المطلوب.
ولنا على هذا الاستدلال جوابان:
الجواب الاول: انه إذا صح هذا الاستدلال يلزم حينئذ أن يقال بعدم استحباب النکاح حتى في مورد الاشتياق، لأن الآية تذم من يحب الشهوات، فحتى من يشتاق النکاح وتتوق نفسه اليه يکون مذموماً بحکم هذه الآية، فلا يکون النکاح مستحباً له، وهذا على خلاف مقصودکم، حيث قلتم بأنه لا يستحب النکاح لمن لا شوق لديه وأما من عنده شوق وميل للنکاح فجميع علماء الشيعة والسنة قالوا بأنه مستحب له، إن هذا على خلاف مقصودکم.
الجواب الثاني: إن المقصود من هذه الآية هو بيان مذمومية الافراط في المسائل المذکورة، حيث عبّر بحبّ الشهوات المناسب لطغيان الشهوة والافراط فيها، وإلا في نفس القرآن الکريم عدّت الانعام من النعم الالهية التي أنعم بها الله سبحانه على عباده، فلو أنها کانت مذمومة اذاً لماذا تعدّ من النعم التي يمنّ الله بها على عباده، کما في الآية 6 من سورة النحل {ولکم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} أي أنه سبحانه خلق لکم هذه الانعام ولکم فيها زينة، فعندما تخرجون بها في الصباح الى المراعي وأيضاً حينما ترجعونها عصراً يکون لها منظر جميل يأخذ القلوب ويوجب السرور في المجتمع، وکثير غيرها من الآيات التي تعد الانعام من نعم الله على الخلق. إذاً قوله تعالى {حب الشهوات من النساء} يقصد به ذم التعلق والافراط في حب النساء لا مطلق حب النساء حيث أنه سبحانه في الآية 21 من سورة الروم يبيّن ان من نعمه على الخلق هي نعمة الازواج: {ومن آياته أن خلق لکم من أنفسکم أزواجاً لتسکنوا اليها}.
الدليل الثالث:هو أن الزواج لمثل هؤلاء الاشخاص ـ غير المشتاقين للنکاح ـ يمنعهم عن کثير من الاعمال الحسنة کالعبادات والطاعات وتحصيل العلوم وغير ذلک من الامور المهمة، وذلک لإنشغالهم بمشاکل ومسؤوليات الزوجة والاطفال وتأمين المعاش لهم وما الى ذلک من مسؤوليات للحياة الزوجية. وهذا الاستدلال منقوض من جهتين:
الجهة الاولى: إن الزواج ليس مزاحماً لما ذکر بل عون عليها، فالزواج إن کان مدروساً فإنه يعين على طلب العلم وعلى العبادة ويهب للانسان الراحة والاطمئنان حيث يمکنه أن يتابع برامجه ببال مرتاح وهو ما يعبر عنه الله سبحانه: {لتسکنوا اليها}، والانسان لا يمکنه أن يتعلم أو يعمل أو يقوم بأي شئ إذا لم يکن مرتاح البال.
الجهة الثانية: هي ان نفس المسؤوليات المذکورة في الاستدلال تعدّ عبادةً، فتأمين النفقة للزوجة والاطفال من العبادات، ولا أقرأ لکم الروايات في هذا المجال لکي لا يطول البحث بل اعطيکم مصادرها، وهي في الباب 23 من أبواب مقدمات التجارة من المجلد 12 من الوسائل، حيث توجد روايات متعددة تتحدث عن هذا الموضوع، فإحدى الروايات تقول: (الکادّ على عياله کالمجاهد في سبيل الله)، بل في رواية أخرى: (أفضل من الجهاد في سبيل الله).
إذن تحمل مسؤولية العيال لا عيب فيه بل هو من العبادات.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين
الامام الکاظم (ع)
لکل شيء زکاة و زکاة الجسد صيام النوافل
هر چيزي زکاتي دارد و زکات بدن روزه مستحبي است
ميزان الحکمة 6 / 392
لا يوجد تعليق