بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر ارواحنا فداه ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
خلاصة الدرس السابق
کان البحث يدور حول معنى کلمة النکاح، وأنه العقد أو الوطي، أو مشترک بينهما، أو مجاز فيهما، واذا ما کان مجازاً فيهما فما هو معناه الحقيقي اذاً؟
وقد انتهينا الى ان هذه الکلمة قد وردت ثلاث وعشرين مرة في القرآن الکريم وأنها في جميع الموارد کانت بمعنى العقد، وإن کان هناک من استثناء فهو في مورد واحد فقط. وقد ذکرنا ان هذا الاطراد والشيوع في الاستعمال يسبب أن يصدّق الانسان بأن المعنى الحقيقي للنکاح هو العقد.
معنى النکاح في الروايات
وهناک روايات کثيرة تشتمل على کلمة النکاح بمشتقاتها المختلفة، وفي أغلبها کانت هذه الکلمة بمعنى العقد، إلا في بعض الموارد النادرة والشاذة حيث کانت بمعنى الوطي.
ونحن إن اردنا أن نستعرض هذه الروايات فإن البحث سيطول جداً، ولا ضرورة أيضاً لذلک، ولذا أکتفي ببيان فهرس لبعض هذه الروايات لکي تطالعوها، وقد نظمت لکم عشرة أبواب من أبواب النکاح في هذا المجال:
1 ـ الباب الاول من أبواب مقدمات النکاح الحديث 10، وقد ورد فيه قوله(ص): (ما من شئ أحب الى الله عز وجل من بيت يعمر في الاسلام بالنکاح) والنکاح هنا بمعنى التزويج والعقد.
2 ـ الباب 48 من أبواب مقدمات النکاح الحديثين الاول والثالث حيث قد وردت فيهما العبارة التالية (ومن سنتي النکاح) والنکاح هنا بمعنى العقد.
3 ـ الباب 139 من أبواب مقدمات النکاح الحديث الاول وفيه: أنه جاء رجل الى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، ليس عندي طول فأنکح النساء… . أي لست مستطيعاً ولا أملک المال لکي اتزوج، فالمقصود بالنکاح هنا هو العقد، حيث انه هو الذي يحتاج الى مال ومصاريف ومهر.
4 ـ الباب 157 من أبواب مقدمات النکاح الحديثين الثاني والثالث، حيث قد ورد الحثّ فيهما على الاحتياط في أمر النکاح وأنه أمر حسن، وهذا الاحتياط يتصور في العقد، حيث أنه قد يکون مورد العقد مشکوکاًن بأن يشک مثلاً بأن هذه المرأة أخت رضاعية أو ام رضاعية، ومقتضى الاحتياط هو إجتناب العقد عليها.
5 ـ الباب الثاني من أبواب عقد النکاح الاحاديث 2 ـ 4 ـ 6، حيث قد ورد فيها التعبير التالي (لا يصلح نکاح إلا بمهر)، ومن الواضح أن المقصود بالنکاح هنا هو العقد، حيث انه هو الذي يکون فيه المهر.
6 ـ الباب الرابع من أبواب عقد النکاح الحديث الاول، وفيه قوله (ع): (لا ينقض النکاح إلا الاب) فالاب هو الوحيد الذي يمکنه أن ينقض النکاح والزواج أي العقد، وإلا نقض الوطي لا معنى له. اذاً اذن الاب شرط في العقد، وسوف نصل الى انه واجب أو مستحب أو غيرهما.
7 ـ الباب السادس من أبواب عقد النکاح الحديث الخامس حيث يقول (ع): (لا تنکح ذوات الآباء من الابکار إلا بإذن آبائهن) أي أن البکر لا تعقد ولا تتزوج إلا بإذن أبيها، فمادة "نکح" يقصد بها هنا العقد. وإذن الاب في زواج الابکار من المسائل المهمة التي لا ينبغي التساهل فيها، إذ لو لم يراعى اذن الآباء فإنه يلزم هرج ومرج شديدين في المجتمع، بحيث أن أياً من البيوت لن تسلم حينئذ.
8 ـ الباب التاسع من أبواب عقد النکاح، وفيه روايات متعددة تدل على اعتبار إذن الاب في النکاح، والمقصود بالنکاح فيها هو العقد.
9 ـ الباب 27 من أبواب عقد النکاح، وفيه روايتان تدلان على بطلان نکاح الشغار، والمقصود به بطلان العقد الذي يکون بهذا الشکل، بحيث يکون نکاح کل من المرأتين مهراً لنکاح الاخرى. وهذه الطريقة من الزواج کانت متعارفة لدى القبائل العربية، فقد کان الرجل يقول لصاحبه زوجني ابنتک أو أختک فأزوجک ابنتي أو اختي، بحيث يکون مهر کل منهما هو الزواج من الاخرى.
10 ـ الباب الاول من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها، وفيه روايات عديدة تدل على حرمة نکاح نساء النبي، بمعنى أنه يحرم على المسلمين العقد عليهن. وروايات أخرى تدل على حرمة زوجة الاب أي العقد عليها.
وکما تلاحظون فهذه عشرة أبواب من الروايات وردت فيها کلمة النکاح بکثرة وفي جميعها کانت بمعنى عقد الزواج، طبعاً هناک أبواب أخرى غير هذه الابواب العشرة.
وأيضاً وردت هذه الکلمة في أبواب کتاب الطلاق من الوسائل ـ الجزء 15 ـ بکثرة وفي جميعها أيضاً کانت بمعنى العقد، کما في قوله (فسخ النکاح) في صورة وجود عيب من العيوب، حيث انه من الواضح ان العقد هو الذي ينفسخ لا الوطي.
وهناک أيضاً أبواب اخرى يمکنکم أن تراجعوها حيث تجدون أن کلمة النکاح فيها هي بمعنى العقد لا الوطي.
الى هنا نکون قد عرفنا ان کلمة النکاح کما انها غالباً أو دائماً في القرآن الکريم کانت بمعنى العقد هي في الروايات أيضاً کذلک، إلا انه في الروايات هناک بعض الموارد کانت فيها هذه الکلمة بمعنى الوطي قطعاً لا العقد، وهذه ليست محلاً للبحث، وهي موارد شاذة ونادرة من جملتها ما هو موجود في أبواب ما يمسک عنه الصائم من الوسائل، الباب 43 الحديثان الرابع والخامس. والکلام فيهما حول الحکم الذي کان مشرّعاً على المسلمين في أول الامر من أنه لما فرض الله سبحانه الصيام فرض ان لا ينکح الرجل أهله في شهر رمضان لا بالليل ولا بالنهار، وکان الرجل إذا نام في أول الليل قبل أن يفطر حرم عليه الاکل بعد النوم أفطر أو لم يفطر. وقد کان هذا الحکم شاقاً على المسلمين خاصة الشبان منهم الذين هم حديثو عهد بالزواج فنزلت الآية ونسخت هذا الحکم وأجازت للمسلمين الاکل والشرب والنکاح الى طلوع الفجر، والنکاح في هاتين الروايتين هو بمعنى الوطي حتماً لا العقد لأنه هو الذي کان ممنوعاً عن المسلمين. والآية التي نزلت عبرت بدل النکاح بالرفث (أحلّ لکم ليلة الصيام الرفث الى نسائکم) البقرة 187، إلا انه في الروايات عبّر بالنکاح، ففي الرواية رقم 4 من الباب 43 من ابواب ما يمسک عنه الصائم عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: (إن الله لما فرض الصيام فرض أن لا ينکح الرجل أهله) والنکاح هنا بمعنى الوطي. ثم في ذيل الرواية يقول (ع): (وکان من المسلمين شبان ينکحون نساءهم بالليل سراً لقلة صبرهم… فأنزل الله {احل لکم ليلة الصيام الرفث الى نسائکم… علم الله أنکم کنتم تختانون أنفسکم فتاب عليکم}.
وأيضاً في الرواية رقم 5 يقول الصادق (ع): (فأحل الله النکاح بالليل في شهر رمضان، والاکل بعد النوم الى طلوع الفجر) وهذا الحکم کان من لطف الله على عباده حيث کان محرماً عليهم تناول الطعام في السحر فأحله لهم. ومن المسلّم به أن کلمة النکاح هنا هي بمعنى الوطي.
وأيضاً هذه الکلمة موجودة في الابواب التي تتحدث عن أحکام الانحرافات الجنسية بصيغة (المنکوح)، وأيضاً هي بمعنى الوطي.
إلا أن الاستعمال الشائع لها هو بمعنى العقد.
نتيجة البحث
والنتيجة هي انه يطرد استعمال کلمة النکاح بمعنى عقد الزواج، والاطراج دليل على الحقيقة عندنا، وهذا ما بحثناه مفصلاً في کتاب أنوار الاصول.
إن قلت: أنتم جعلتم الاطراد دليلاً على الحقيقة في موردنا مع أنه في کل الامثلة التي ذکرتموها کانت کلمة النکاح توأماً مع القرينة الدالة على المراد منها، فهناک قرينة "المهر" و"إذن الاب" وغيرها من القرائن التي تدل على أن المقصود من النکاح في هذه الجملة مثلاً هو العقد لا الوطي، وقرائن أخرى بالعکس. ونحن لا نرضى أن تکون موارد الاستعمال الکثيرة المقرونة بالقرينة دليلاً على الحقيقة ومن علاماتها.
قلنا: ان مبنانا هو کون الاطراد دليلاً على الحقيقة ولو أنه کان توأماً مع القرينة، لماذا؟ لأن الوضع على قسمين حسب ما تعلمون، وضع تخصيصي ووضع تخصّصي، فتارة يأتون ويضعون کلمة لمعنى معين کما في (سمّيت ولدي أحمداً) مثلاً، وهذا وضع تخصيصي، واخرى يکون الوضع تخصصياً تعيّنياً وهو الذي يصبح فيه المعنى حقيقياً للفظ جرّاء کثرة الاستعمال، ولأجل معرفة انه کيف يصبح کذلک لابد لنا من الرجوع الى حقيقة الوضع.
والوضع هو نوع ايجاد علقة بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار بحيث أن الانسان عندما يسمع اللفظ ينتقل ذهنه مباشرة الى المعنى وفي بعض الاوقات عندما يفکر في المعنى يخطر في ذهنه اللفظ. والبعض عبّر عن هذه العلقة بالأنس، فهناک علقة وأنس بين اللفظ والمعنى. وهذه العلاقة وهذا الانس في الذهن لا في الخارج إذ في الخارج لا يوجد أي ارتباط بين اللفظ والمعنى.
والبعض قال بأن الوضع هو نوع تعهد، أي هو عبارة عن تعهد الشخص بإرادته للمعنى الفلاني حيث استعماله للفظ الفلاني. الى غير ذلک من مبان ذکرت في حقيقة الوضع تعرض لها في أول الکفاية وتذکر أيضاً في بحوث الخارج. وأيّ ما کانت حقيقة الوضع فإنه نوع علاقة تارة تنشأ عن الوضع التعييني کما في (جعلت هذا الاسم لهذا المولود) وأخرى تنشأ عن الوضع التخصصي التعيني.
فهل ان استعمال لفظ في معنى مائة مرة مع قرينة لا يوجب حصول العلقة المذکورة؟ يوجبها بلا اشکال.
ومثاله طريقة الشارع المقدس عندما أراد أن ينقل الصلاة من معناها الحقيقي الخاص الذي هو الدعاء الى حقيقة شرعية عبارة عن الارکان والاجزاء المخصوصة، حيث أنه مرة يقول (أذّنوا للصلاة) والاذان هنا قرينة على إرادة الارکان المخصوصة من الصلاة لا الدعاء، وأخرى يقول: (قوموا للصلاة مستقبلي القبلة) أو (توضؤوا للصلاة) أو (اجتمعوا لصلاة الجماعة)، وفي کل هذه الموارد تستعمل کلمة (الصلاة) ويراد منها المعنى المخصوص، ومع تکرار هذا الاستعمال لأيام أو لأشهر تحصل تلک العلقة الخاصة بين لفظ الصلاة وبين الارکان والاجزاء المخصوصة، بحيث انه لو قيل في يوم بلا قرينة (ايها المسلمون الصلاة الصلاة) فإن الذهن ينتقل مباشرة الى الارکان المخصوصة، وما ذلک إلا لحصول العلقة والانس الذهني بين هذا اللفظ وهذا المعنى المخصوص الناشئة عن کثرة الاستعمال فيه مع القرينة لا محالة.
والنکاح أيضاً من هذا القبيل، حيث انه في أغلب الموارد استعملت کلمة (النکاح) واريد منها العقد وقليلاً ما اريد منها الوطي، وقد بيّنت لکم موارد ذلک من القرآن والروايات، وهذا يسبب حصول انس ذهني بين کلمة (النکاح) وبين عقد الزواج، بحيث انه إذا استعملت في مورد بلا قرينة فإن الذهن ينتقل مباشرة الى العقد.
سؤال: معنى هذا البيان الذي تقولونه هو أن للنکاح حقيقة شرعية مثل الصلاة، مع أن صاحب الجواهر (قده) في أول المجلد 29 من الجواهر ضمن البحث عن معنى النکاح وأنه العقد او الوطي يشن هجوماً قاسياً على من يقول بذلک ويقول بأن ذلک من الواضحات، فهل أنتم تقولون بأن للنکاح حقيقة شرعية؟
الجواب: إن لذلک حالتين، فإنه إذا قيل بأن النکاح لغة هو الوطي کما لعله عليه أکثر أهل اللغة فإننا حينئذ نقول بأنه حقيقة شرعية في العقد، ولا نخاف من هجوم صاحب الجواهر عليه الرحمة والرضوان، حيث ان معنى النکاح شرعاً هو العقد کما اتضح، والحقيقة الشرعية ليست شيئاً غير ذلک.
وأما إن کان النکاح لغة مشترکاً بين الوطي والعقد فإننا حينئذ لا نقول بأنه حقيقة شرعية في العقد منتهاه انه ينصرف اليه.
فنحن اذاً إما نقول بأنه حقيقة شرعية في العقد وإما انه ينصرف اليه. الى هنا ينتهي هذا البحث، وأعنون لکم بحث غد لتطالعوه إن شاء الله. نحن غداً نبحث بشکل مختصر في النکتة الخامسة حول کلام لصاحب الجواهر (ره) في الصفحة 133 من المجلد 29 من الجواهر حيث قال: عن النکاح فيه شوب من العبادات المتلقاة من الشارع. وهذا شئ عجيب لابد لنا من تفسيره حيث انه (قده) لا يوضح مراده من هذا الکلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر ارواحنا فداه ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
قال الصّادق عليه السّلام :
... رَحِمَ اللّهُ دَمْعَتَکَ، اَما اِنَّکَ مِنَ الَّذينَ يُعَدُّوَنَ مِنْ اَهْلِ الْجَزَعِ لَنا وَالَّذينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنا و يَحْزَنُونَ لِحُزْنِنا، اَما اِنّکَ سَتَرى عِنْدَ مَوْتِکَ حُضُورَ آبائى لَکَ... .
وسائل الشيعه ، ج 10، ص 397
لا يوجد تعليق