الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
يمكن أن نعتبر صلح الحسن أو بعبارة أُخرى مهادنته لمعاوية من أصعب مراحل مسيرة الإمامة في الإسلام وكان أكثر الهدنات ثورية في التاريخ وانّ احتمال معاناته ـ الصلح ـ المضنية لا يمكن لأحد غير ابن علي ـ عليه السَّلام ـ مهما أوتي من المعرفة العالية جداً بمراتب ودرجات الإيمان وقد كان هذا الصلح مثاراً للجدل والنقاش دائماً وحاول المغرضون بأقلامهم المغرضة والجاهلون بنظرتهم الجاهلة أن يحرّفوا هذه السيرة الإيمانية ويقذفوها في دائرة الغموض والإبهام.
انّ الأئمّة جميعاً مظهر للتقوى والسياسة وانّهم يشتركون جميعاً في التقوى والإيمان ويختلفون في الأسلوب والسياسة، فقد أصبح أسلوب علي وسياسته في مرحلتي الصمت والسكون والصراخ والحركة ملاذ الأمة وحلّها الوحيد وسار الحسن على خطا أبيه في المرحلة الأُولى والحسين في المرحلة الثانية، ولولا الصمت لما كان لعلي ـ عليه السَّلام ـ صراخ وصوت مدو وشهادة منذرة تبعث الحياة في النفوس كذا صراخ وصوت الحسين المدوي وتضحياته ما كانا ليسجّلا في التاريخ من دون صلح أخيه بهذا الشكل.
وانّ كلّ أُولئك الذين اتهموا الحسن بطلب العافية والدعة وتمنّوا متأثرين بعواطفهم: ليته اختار الشهادة وخلق من ساباط ـ اسم مكان الصلح ويومه ذلك الصلح الثوري المصيري وبعبارة أُخرى يوم عاشوراء الحسن ـ عاشوراء ثانية ومن الكوفة كربلاء أُخرى كانوا مخطئين إلى أبعد الحدود.
ربما كان احتمال الشهادة أسهل على الحسن، غير انّه وكباقي الأئمّة كان عليه أن يفكّر بإنقاذ الإسلام والمسلمين وانتقاء أكثر أساليب الكفاح فاعلية فقط.
ولو دقّقنا وتعمّقنا قليلاً في عصر الحسن لما كنا نجد هناك ما هو أنجع من سياسة السلم والصلح، لا سيما إذا كان بدافع تضخيم الدور الرسالي وبهدف الحياة لأجل الموت بطريقة أفضل ولو كان يثور ويقوم بكفاحه المسلح فريداً بلا أعوان لما كان هناك امتداد للإمامة.
ولعلّه إذا كان يملك مثل أخيه اثنين وسبعين ناصراً من الصدّيقين والفدائيين كان ينتفض بتلك الانتفاضة أيضاً، و لكن ماذا يبقى أمامه ليفعله عندما يجرده العدو من الأنصار ويجند حتى زوجته لقتله بالسم، ويدفع بقادة جيشه للمساومة عليه وتسليمه إلى معاوية مكتوف اليدين، وبالتالي يحرض قائد جيشه الذي كان يفترض أن يستعين به في معركته على التمرّد عليه، غير الصلح والسلم؟! والوحيد الذي كان بإمكان الحسن أن يعتمد عليه هو الحسين الذي كان ينتظره يوم عاشوراء الرسالي العظيم.
ولا شكّ انّه لولا صلح الحسن مع معاوية و كونها مقياساً اختبارياً في نقض ما جاء فيه لما حدثت ثورة الحسين أيضاً، ولو لم يشترط الحسن على معاوية بشرط يحرمه من حقّ الاستخلاف حتى ينقضه باستخلاف ابنه يزيد، لما كان هناك ذريعة مقبولة للحسين في ثورته ولا كان هناك دليل يستدل به شيعته(1).
ساباط وعاشوراء يفضحان جاهلية الأمويين الخبيثة
عندما ألقت الأمّة نظرة على سير الأحداث في واقعتي ساباط وعاشوراء أدركت بوضوح جاهلية الأمويين الخبيثة والقبيحة. فقد شاهدت انّ الحسن قد ارتضى بالسلم بيد انّ معاوية لم يفِ بأي شرط من شروط المعاهدة المتفق عليها ونقض كلّ المواثيق فلا هو سار على هدي كتاب اللّه وسنة رسوله في حكمه، ولا جعل الحكم شورى من بعده، ولا منحه لصاحبه الحقيقي، ولا هو أوقف سبّ علي وصان قداسة المنبر من هذه البدعة الشائنة، ولا هو دفع الخراج الواجب عليه دفعه، ولا هو أبعد عن المسلمين المخلصين وأصحاب علي اضطهاده وملاحقاته ومطارداته الغادرة، بل سقى الحسن السم في النهاية أيضاً.
أعظم تجسيد للإرادة والعجز
وببركة ثورة الحسن الصامتة وثورة الحسين المدوية انكشف الستار عمّا كان خافياً وظهرت الأفكار الدفينة، انّ العبرة التي خنقت الحسن وضاق بها ذرعاً هي عبرة الإسلام التي ظلت تفور وتفور من أعماق وجوده وانقشعت بصرخة الحسين المدوية.
إنّ ما انعقدت نطفته في أحزان وعبرات الحسن وتكاملت خلاياه في دم الحسين هو لب الإمامة وأساسها، فقد كان الحسن أعظم تجسيد للإرادة والعجز ذلك المقاتل المغوار الذي أدهش الجميع بصولاته في سوح الوغى، ذلك الخلف الذي نهل من نمير مدرسة البسالة والاعتزاز مدرسة أبيه علي حتى اللحظة الأخيرة من حياته وأفاد منها الكثير من الحكمة والتعاليم.
وكم كان كريماً حليماً هناك حيث رأى انّ رسالته في ساحة الإمامة لا تكون إلاّ في الصلح والسلام فارتضى به واحتمله وكان هذا هو حُسن سيرة الحسن لا شيئاً آخر ذلك الحسن الذي أجلس الصمت والصلح على حد السيف واحتفظ بحلول الإسلام الأُخرى في نطاق حمايته.
وقد تدارك بلسانه القاطع وخطبه المجلجلة وكلامه الدامغ صمت السيف تماماً ومهّد أكثر الأرضيات استعداداً لثورة الدم ثورة أخيه، لدرجة انّ معاوية كان يرتعد ويرتعش من كلماته وخطبه تلك، فكان يدفع بزبانيته ومرتزقته إلى قطع سلسلة أحاديثه ليمنعوه من مواصلتها في الاجتماعات.
الجهاد في أوسع الميادين
خطا ـ عليه السَّلام ـ بأكبر خطوة إصلاحية وفتح باب مدرسة الأخلاق والحب والإصلاح فيوقت كان يحكم فيه الفتنة والسلاح، وكمصلح لا يفكر في غير الخير والصلاح باع الشهرة برضا ربّه، ولم يختر الصلح في بداية الطريق بل في نهايته، واحتمله بعد الهزيمة في كلّ جبهات القتال.
انطلق جهاده المضني في أوسع الميادين وعلى مختلف الأصعدة فاختبر جيشه وتفحّصموضعه في ساحة القتال مع الأعداء وجرّب مواجهة الفتن والمكائد في جهاده مع أصحابه المنافقين، واستمد من قوة الإصلاح والإرشاد في جهاده لنفسه يكظم غضبه في احتمال الصلح المفروض... ولو ألقينا نظرة إجمالية على جهاد هذا المظلوم الصامت، لأصبح كلّ اعتراض اعتذاراً وكلّ نقد مدحاً...(2).
لا يوجد تعليق