نص الحديث:
«يا أباذر سيکونُ أناسٌ من أمّتي يولدونَ في النعيم و يغذَّوْنَ بهِ، همّتُهم ألوانُ الطعامَ و الشرابِ، و يمدحونَ بالقولِ، أولئکَ شرارُ أمّمتي» (1)
شرح الحديث:
المبدأ الرئيسي للنعم الالهية في الاسلام هو استغلالها و الاستفادة منها. جاءت في القرآن الکريم آيات متعددة بهذا الخصوص: «مَن حرّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ و الطيباتِ من الرزقِ»، أو الآية الشريفة الأخرى: «يا أيِّها الرسلُ کُلوا من الطيباتِ و اعملوا صالحاً» (2). لدينا کذلک آيات عديدة أجازت الاستفادة من النعم الالهية، لقد قُبل ذلک بعنوان مبدأ طبعاً، لکنّ المهم أنّ هناک عناوين أخرى يجدر بالانسان الانتباه لها.
1ـ العنوان الأول الذي يطرح نفسه هو فلتصبح الحياة المترفة هدفاً أصيلا وتقع بقية الأشياء في طريقه. يتربى الانسان منذ نعومة أظفاره في حياة مترفة و ينمو على ذلک و يشکل ذلک کل همّه، فالاسلام لايرضى بذلک أبداً، حتى عندما يقول القرآن: «يا أيّها الرسلُ کلوا من الطيباتِ» يذکر العمل الصالح معه و يقول: «و اعملوا صالحاً»، أي استثمروا الطيبات في طريق العمل الصالح.
أو في الآية الشريفة: «خذوا زينَتَکُم عندَ کلّ مسجد» ليس الهدف هو المسجد أيضاً: «أرضُ اللهِ واسعةٌ» (3)، يجب أن يقع کل ذلک في طريق العبودية، لأنّه لو أصبح هدفاً لانحرف عن الطريق الرئيسي له.
2ـ الشکل الثاني الممنوع الغفلة عن ذلک، أي تُغفل الحياة المادية الانسان عن الله، و تشغله الحياة المترفة بنفسه، أي تکون موجدةً للغفلة و مزيلةً لها. هنا أمر الاسلام بالزهد و الصوم و ترک اُمنيات النفس.
لدينا حديث منقول عن النبي الکريم(صلى الله عليه وآله) مضمونه ظريف جدّاً حيث يقول: أصوم تارةً و أفطر أخرى، لمّا أصوم أشکر الله تعالى و لمّا أفطر أتذکر الجائعين».
ذُکر المرء الله أثناء النعمة و المحرومين أثناء الحرمان دليل على أنّ النعمة لم تغرّه و لم تلهه، أي لم يتذکر المحرومين أثنائ الحرمان لکنّه يغفل عن ذکر الله في النعمة، هنا يؤدي ازدياد النعم الى الغفلة.
يجب التدقيق و الامعان في قصة سبأ، إنّها قصة تعليمية: «لقدْ کانَ لسبإ في مساکِنِهمْ آيةٌ جنّتان عن يمين و شمال کُلوا من رزقِ ربّکُمْ» (4).
أشخاص کانوا يعيشون في صحراء جرداء تماماً و لا يملکون شيئاً، لکنّهم أنشأوا سدّ مأرب المعروف فحال دون حدوث الفيضانات، و شقوا القنوات و الترع فأصبحت مملکتهم عامرةً، فلو سافر شخص من مدينة الى أخرى لظلّلته الأشجار على طول الطريق، و لو وضع على رأسه سلةً و مرّ تحت تلک الأشجار لامتلأت بعد فترة، لکنّ هذه النعم لم تؤدّ الى الشکر فحسب بل خلّفت الاعراض عن الله و الغفلة عنه. و أخيراً أرسل الله عليها السيل و أفناها جميعاً.
العجب من أنّ کل هذه الحضارة التي نشأت من سدّ مأرب تلاشت بواسطة عدد من الفئران الصحراوية کما نقلت الروايات. الظاهر أنّ سدّ مأرب کان ترابياً، فأوجدت الفئران و الجرذان جحراً وعشعشت فيه، و عند ما يدخل الماء الى حجر صغير يغسل أطرافه و جوانبه بالتدريج، و أولئک کانوا لاهين بمالديهم من أعمال، و عندما استيقظوا من نوم الغفلة لم يکن بإمکانهم الحؤول دون الفيضان و السيطرة عليه، فأصبح مصيرهم يضرب فيه المثل; يمکن أن يقع ما يشبه هذه الحکاية لطالب العلم (الروحاني) لا قدّر الله، فيتسابقون في الأمور الکمالية و الترف، مثلا يسعون لاقتناء منزل فخم و مرکبة عظيمة و فخمة و بقية الأشياء الکمالية، و النتيجة يغفلون عن الله و يبتلون بذلک المصير، فهذا العنوان الثانوي يمنع استغلال النعم الالهية من قبل الانسان.
3ـ عندما يمّر الناس بشقاء و عناء فکما قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «هل أنام شبعاناً» بينما تحيط بي بطون جائعة. في هکذا بيئة مليئة بالجائعين و المحرومين لايجب أن أهتم بنفسي فقط فتکون جميع همي و غمي و أغفل عن الآخرين.
4ـ يوجد أحياناً عنوان ثانوي يشمل صنفاً خاصاً، و هم من يجب أن يکونوا قدوةً و أسوةً للآخرين، فيحتمل أن يکون اسعمال تلک الوسائل من قبل الآخرين حسناً، لکنّه لا يناسب من کان أسوةً و قدوةً للناس.
من أراد أن يکون أمير جماعة يجب عليه أن يراعي شأناً من الشؤون الکثيرة لأمير المؤمنين، کيف يمکن أن يکون الانسان أميراً على قومٌ و لايشارکهم في سرّائهم و ضرائهم.
بناءاً على هذا، تجب مشارکة الناس في مشاکل الدهر، يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): السيد من شارک الناس في همومهم و مشاکلهم.
الحکاية العجيبة لقوم سبأ:
مع أخذ توصيات الأستاذ بشأن مطالعة سيرة الذين جحدوا نعمتهم بنظر الاعتبار سنذکر مصير قوم سبأ ليکون عبرةً للجميع:
الذي يستفاد من القرآن الکريم و الروايات الاسلامية و کذلک من الکتب التاريخية أنّ أولئک سکان کانوا يعيشون جنوب الجزيرة العربية و کانت لديهم دولة ممتازة و حضارة متألقة.
کانت أراضي اليمن واسعة و خصبة و مثمرة، لکن وبرغم هذا الاستعدادلم يتمّ استثمارها لعدم وجود نهر مهمٍّ فيها، کانت الأمطار الغزيرة تهطل في المناطق الجبلية فتضيع مياهها في البوادي القاحلة، فکر الفطنون من أبناء تلک البلاد باستثمار هذه المياه، فأنشأوا سدوداً عديدةً في المناطق المهمة و من أهمها وأکثرها مياهاً سدّ مأرب.
مأرب (على وزن مغرب) بلدة تقع في نهاية أحد هذه الوديان، و تمّر السيول العظيمة لجبال«الصراط» بجنب هذه البلدة. قاموا ببناء سدٍّ ضخم في فوهة هذا الوادي و سفح جبلي «البلق» و أوجدوا فيه مجاري مختلفة، فاجتمعت مياه غزيرة خلف ذلک السدّ و استطاعوا بالاستفادة منها إيجاد حدائق غنّاءة و مزارع کثيرة على ضفتي النهر المنتهي بالسد. کما قلنا کانت القرى العامرة لهذه البلاد متصلةً ببعضها تقريباً فتکاتفت الضلال الواسعة للأشجار فقيل کلما وضع شخص سلّةً على رأسه و سار تحتها تتساقط الثمار فيها باستمرار حتى تمتلأ في فترة و جيزة.
لقد أوجد و فور النعمة المقرون بالأمن بيئةً مناسبةً جداً لحياة طيبة، بيئة جاهزة لإطاعة الرب و التکامل في الجوانب المعنوية.
لکنّ أولئک لم يدرکوا قيمة تلک النعم، فنسوا أو تناسوا الله و انشغلوا بجحود النعمة، و بدأوا يتفاخرون، و أجّجوا الفوارق الطبقية.
جاء في بعض التواريخ أنّ الفئران الصحراوية و الجرذان توجهت الى جدار هذا السدّ بعيداً عن أعين الناس الذين ملأهم الغرور و الترنح فأوهنته من الداخل; هطلت أمطار غزيرة على حين غرة فتحرکت سيول قوية جداً، فتلاشت جدران السد التي لم تستطع مقاومة الضغوط، و جرت تلک المياه الکثيرة المجتمعة خلف السدّ بسرعة فائقة فدمرت جميع القرى و الحدائق و المزارع و الدواب، و هدمت القصور و البيوت المجللة و الجملية بصورة مفاجئة، فتحولت تلک البلاد العامرة الى صحراء قاحلة، و لم يبق من تلک الحدائق النضرة و الأشجار المورقة سوى بضغة أشجار مرّة «المشواک» و «الاشجار المالحة» و قيل من «السدر»، هاجرت الطيور المغنية بالغزل من هناک و حلّ محلها البوم و الغربان.
نعم، عندما يرغب الله أن يُري قدرته يهلک حضارةً عظيمةً بواسطة بضعة فئران، ليتعرف العباد على ضعفهم و لا يأخذهم الغرور عندما ينالون قوةً و قدرةً. (5)
ما حقيقة الجحود بالنعمة:
ليس جحود النعمة عدم شکر الله فقط، بل کل استغلال للنعمة و استثمار شاذ و منحرف لها يعدّ کفراً بها. أصلا هذه حقيقة الکفر بالنعمة و يأتي عدم الشکر بالدرجة الثانية. کما أنّ شکر النعمة معناه إنفاقها في الهدف الذي خلقت من أجله، و الشکر اللساني يقع في الدرجة اللاحقة، فلو قلت «الحمد لله» آلاف المرات بلسانک لکنّک أسأت الاستفادة منها عملياً فقد کفرت و جحدت بها!
في هذا العصر الذي نعيش فيه تُرى أبرز مصاديق تبديل النعمة بالجحود، لقد قُيدت القوى المختلفة لعالم الطبيعة بأيدي الانسان في ضوء الذکاء و الابداع الذي منّ الله به عليه، و سُخرت في طريق مصالحه. لقد بدلت الاکتشافات العلمية و الاختراعات الصناعية وجه هذا العالم، و قد رفعت الأعباء الثقيلة من على کاهل الانسان و وضعت على اکتاف مکائن المعامل. المواهب و النعم الالهية أکثر من أي زمان سبق، و صارت وسائل نشر الفکر و بسط العلوم من جميع مناطق العالم في متناول الجميع، و کان يجب أن يصبح الناس في هذا العصر سعداء من جميع الجوانب، من الناحية المادية و من الناحية المعنوية أيضاً، لکن و بسبب تبديل هذه النعم الالهية العظيمة الى الکفر و إنفاق الطاقات الجميلة و الکبيرة للطبيعة في طريق الظلم و الاستبداد، و استعمال الاختراعات و الاکتشافات في طريق الأهداف المخربة، بحيث أنّ کل ظاهرة صناعية جديدة تخضع للاستثمار التخريبي أولا ثم تأتي مرتبة الجوانب الايجابية و باختصار إنّ هذا الجحود بالنعمة المعلول للابتعاد عن تعاليم أنبياء الله البنّاءة أد;ى الى جرف المجتمع نفسه نحو دار البوار، دار البوار الذي هو عبارة عن مجموعة من الحروب الاقليمية و العالمية مع جميع آثارها المخربة. کذلک عدم الاستقرار، الظلم، الفساد، الاستعمار، و الاستثمارات التي تصيب مؤسسيها في النهاية کما رأينا ذلک في الماضي و نراه اليوم بأعيننا.ما أروع ماتنبأ به القرآن الکريم من أنّ کل قوم و أمة جحدت نعمتها فهي تسير نحو دار البوار(6).
1.بحار الانوار، ج 74، ص 90.
2.سورة المؤمنون، الآية 51.
3.سورد الزمر، آلآية 10.
4.سورة سبأ، الآية 15.
5.التفسير الأمثل، ج 18، ص 67 ـ 68.
6.التفسير الأمثل، ج 10، ص 345 ـ 346.
نص الحديث:
«يا أباذر سيکونُ أناسٌ من أمّتي يولدونَ في النعيم و يغذَّوْنَ بهِ، همّتُهم ألوانُ الطعامَ و الشرابِ، و يمدحونَ بالقولِ، أولئکَ شرارُ أمّمتي» (1)
قال الباقر (عليه السلام):
مَنْ دَخَلَ هذَا الْبَيْتَ عارِفاً بِجَميع ما اَوْجَبَهُ الله عَلَيْهِ کانَ آمِناً في الآخِرَةِ مِنَ الْعَذابِ الدّائِمِ.
هرکس داخل اين خانه شود، و نسبت به همه آنچه خداوند بر او واجب فرموده آگاه باشد،از عذاب هميشگى روز قيامت ايمن خواهد بود
عوالى اللّآلى: 2/84/227
لا يوجد تعليق