بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر ارواح العالمين له الفداء ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
تتمة البحث في مسألة نکاح الاقارب
کان البحث حول الاحکام الخمسة للنکاح، حيث ذکرنا أن النکاح مستحباً بحسب الذات لکنه بالعرض تثبت له أحکام خمسة، وبالمناسبة ذکرنا أن أحد أفراد الزواج المکروه هو الزواج من الاقارب القريبين، ولم يکن لدينا دليل على ذلک سوى الحديث المنقول في کتب العامة، وما أريد قوله هو أن لا نحکم على هذا الحديث بشدة الضعف، لأن هناک حديثاً آخر وجدناه شبيه به ينقله المرحوم السيد الرضي في کتاب (المجازات النبوية)، فيکون عندنا حديثان على هذا الحکم، والحديث موجود في کتاب (المجازات النبوية) الصفحة 78 الحديث رقم 59، وهذا الکتاب من الکتب الجيدة للسيد الرضي(ره) عن النبي (ص) أنه قال: (اغتربوا لا تضووا) أي تزوجوا من الغرباء لکي لا تنحفوا ولا تضعفوا ولکي يکون أبناؤکم أقوياء البنية.
ابن الاثير في النهاية ينقل هذا الحديث أيضاً، والنهاية وإن کانت کتاب لغة إلا أنه تفسر فيها الالفاظ التي ترد في السنة النبوية، وفي الصفحة 106 من المجلد الثالث من النهاية عندما يصل ابن الاثير الى قوله (ص): (اغتربوا لا تضووا) يقول: (أي تزوجوا الغرائب دون القرائب فإن ولد الغريبة أنجب وأقوى من ولد القريبة) وهذا حکم غالبي لا دائمي وله استثناءات بلا إشکال، ثم يقول (ومنه الحديث) وهو الحديث السابق القائل (لا تنکحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاوياً).
إذاً هناک حديثان في هذا المجال أحدهما قوله (ص): (اغتربوا لا تضووا) والثاني قوله (ص): (لا تنکحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاوياً).
والنکتة المهمة في المقام هي أن بعض فقهائنا حينما ينقلون هذه الرواية لا يقولون: "روي" بل يقولون: "قال رسول الله (ص)". فالشهيد الثاني مثلاً في أول کتاب النکاح من المسالک ينقل الحديث الثاني ويقول: "لقول (ص)" ولا يقول: لما روي عن النبي (ص)، ثم ينقل الحديث (لا تنکحوا القرابة القريبة…) والنتيجة هي أن علماءنا (رض) کأنهم يقولون بأعتبار هذا الحديث، فإذا انضم اليه أقوال الخبراء والاطباء فلا يبعد حينئذ أنه يمکننا أن نجيب على الاسئلة التي توجه الينا حول نکاح الغربية ونقول بأن نکاحها أفضل من نکاح القريبة، وأقوال الاطباء وإن لم تشکّل لنا دليلاً قطعياً إلا أنها تصلح مؤيداً فلا يبعد الحکم بالکراهة حينئذ.
واذا أورد علينا بأن المعصومين (ع) کانوا يتزوجون من أقاربهم القريبين فإننا نجيب أن هذه إستثناءات موجودة في کل قانون کلي.
وعلى أي حال أحببت أن أبيّن بعض التوضيح حول هذه المسألة ثم أنتقل الى غيرها، ولا بأس في أن يطالع السادة حول هذه المسألة ويتابعوها لأنها من موارد الابتلاء في زماننا، فلعلهم يستطيعون أن يجدوا لها مدارک أکثر إذ قليلاً ما بحث حولها في کتبنا.
بيان تدقيق الشهيد الاول في القواعد
وأما اليوم فإننا نکمل البحث في مسألتنا الاساسية وهي الاحکام الخمسة للنکاح، فالشهيد الاول (قده) في القواعد دقق في هذه المسألة حيث ذکر أن هناک تقسيمين لها: تقسيم بحسب الناکح، وتقسيم بحسب المنکوح، وإن هناک أحکاماً خمسة في کل قسم، وأنا هنا إنما أنقل لکم خلاصة کلامه (قده)، أما بحسب الناکح فإنه يذکر أمثلة خمسة شبيهة بالامثلة التي مرّت معنا، وأما بحسب المنکوح أي التقسيمات الخمسة التي تکون بلحاظ المرأة فإنه يمثّل للحرام بنکاح المحرمات کالام مثلاً، وللمکروه بنکاح العقيمة، وهناک رواية تقول بأن الزواج من المرأة العاقر مکروه. وهذه الکراهة نرى أنها بحسب المنکوح لا بحسب النکاح، فالمرأة المنکوحة فيها خصوصية أوجبت الکراهة.
وأيضاً يمثل (قده) للمستحب بنکاح الاقارب، بناء على القول القائل أن نکاح الاقارب سبب لصلة الرحم، ويمثل للنکاح الواجب بوجوب الوطي بعد مضي أربعة أشهر، حيث يجب على الزوج أن يواقع زوجته في کل أربعة أشهر مرّة. لکنه هنا قد وقع خلط بين النکاح بمعنى العقد والنکاح بمعنى الوطي.
وأما بالنسبة للنکاح المباح فإنه يقول (قده): ما عدا ذلک.
بيان کلام للعاقة في المقام
والعامة أيضاً عندهم نفس التقسيم لکنه أنقص من التقسيم الذي نذکره نحن، وممن يذکر هذا التقسيم ابن قدامة في کتابه المغني وهو من الکتب الفقهية المبسوطة، وأيضاً النووي في کتاب "المجموع" الذي ذکرناه فيما سبق، والنووي من علماء القرن السابع الهجري بحسب الظاهر، ينسب الى "نوا"، وهي قصبة من أطراف دمشق، عنده کتاب بإسم "المجموع" وهو من الکتب الشاملة جداً.
يقول ابن قدامة في المجلد 7 من المغني الصفحة 334: الناس في النکاح على أقسام ثلاثة، القسم الاول هم الاشخاص الذين يخافون إن ترکوا النکاح أن يبتلوا بعمل مناف للعفّة، فهؤلاء يجب عليهم الزواج في قول عامة أهل العلم.
ثم يقول: القسم الثاني هم الاشخاص الذين لا يخافون من الوقوع في الحرام لکن عندهم اشتياق للنکاح، وهؤلاء يستحب لهم النکاح. إلا أنه لا يدّعي الاجماع هنا بل يقول إن ذلک ذکره جماعة من العلماء.
وأما القسم الثالث فيقول أنه يتصور بالنسبة لمن لا شهوة له کالعنين، وهذا هل يکون النکاح مستحباً له أو مکروهاً أو مباحاً؟ يقول: إن فيه وجهان، وجه بإستحباب النکاح له لعموم الادلة، ووجه آخر بأن الافضل له أن يترک النکاح لأنه بنکاحه فضلاً عن ابتلائه بنفسه سوف تبتلي معه زوجته المسکينة، فالاولى له أن يترک النکاح.
وکما لاحظتم فإن ابن قدامة يذکر أقساماً ثلاثة للنکاح بينما علماؤنا (قده) ذکروا أقساماً خمسة.
نتيجة البحث
ونتيجة البحث هي أن النکاح بحسب طبيعته الاولية مستحب لکن بالعنوان الثانوي تثبت له أحکام خمسة، ونحن أيضاً نرتضي هذه الاحکام الخمسة.
إن قيل: أنتم أشکلتم على ما مثّل به صاحب الحدائق للنکاح المکروه فينبغي لکم أن تذکروا مثالاً له.
قلنا: أنه يمکن التمثيل لذلک بنکاح المتعة لکثير من الاشخاص، ففي بعض الروايات نجد أنه قد ورد النهي عن المتعة لبعض الاشخاص، فقد خوطب المتزوجون ومن عندهم أولاد في بعض الروايات بأنه لا تتمتعوا واحفظوا سمعتکم في المجتمع، وحافظوا على حيثياتکم وشخصياتکم خصوصاً في قبال العامة، وخصوصاً من ليس هو بحاجة لذلک.
فالمتعة جزء من القوانين المهمة في الاسلام لکنها شرّعت لأجل بعض المصالح لا لاتباع الاهواء، وقد أصبحت المتعة شيئاً منفوراً بين الناس منذ ذلک اليوم الذي أصبحت فيه وسيلة لاشباع الاهواء، مع أنها قيمة من القيّم الاسلامية، لکن هذه القيمة أصبحت ضداً للقيم منذ أصبحت وسيلة لإشباع الاهواء. وکما قلنا ورد النهي في الروايات عن التمتع في بعض الاوقات والظروف، فالمتعة التي هي مستحبة تصير مکروهة في بعض الظروف، وهذا مثال جيد للکراهة بحسب الناکح.
وأما الکراهة بحسب المنکوح فأيضاً يمکن التمثيل لها بمتعة النساء المعروفات بالزنا، فقد ورد في الروايات النهي عن التمتع بالنساء المرتکبات للفواحش، فهذا مثال للکراهة بحسب المنکوح.
وإن شاء الله عندما نصل الى باب نکاح المتعة سوف نذکر أنه إن مورست المتعة بشکل صحيح فإنها حلاّلة لکثير من المشاکل، لکن وللأسف خرّبها بعض من لا معرفة له بأحکام الاسلام.
بقي هنا شئ
اني قد رأيت أن البعض يذکر أن استحباب النکاح مقيد بالاشتياق له، مع أنه لم يرد هذا التقييد في الاحاديث أصلاً، وأساساً فلسفة النکاح لا تنحصر بإشباع الغريزة الجنسية بل إحدى فلسفاته هي تکاثر النسل. والناس على أقسام ثلاثة: قسم لهم رغبة شديدة بالزواج، وقسم آخر يقولون إن تزوجنا فتلک نعمة من الله وإن لم نتزوج فإننا لن نتأذى من ذلک، وقسم ثالث مثل العنين، أي ليس هو من أهل النکاح أصلاً. ونحن لا نتکلم عن القسم الثالث وبحثنا في القسمين الاول والثاني، فنحن لا نتکلم عن العنين إذ ربما کان النکاح بالنسبة له محرماً أو مکروهاً بإعتبار أنه قد يسبب وقوع زوجته في الحرام. فهناک أشخاص لا شوق خاص عندهم للنکاح لکنهم لا يستاؤن منه مثل من تجاوز سن الاربعين ولم يتزوج ثم يتزوج بعد ذلک ويصبح عنده عدة أولاد، وأنا قد رأيت مثل هؤلاء الاشخاص عدة مرات، فيعلم أن هؤلاء لم يکن عندهم شوق للنکاح في شبابهم لکنهم يتزوجون فيما بعد لأجل أن لا ينقطع نسلهم. وهذا القسم لا مشکلة فيه. والکلام إنما هو في مصدر التقييد بالشوق والتوق في کلام بعض العلماء مع أن الروايات لا يوجد فيها أصلاً مثل هذا القيد؟
الظاهر أنهم قد استفادوا هذا القيد من قصة نبي الله يحيى (ع) الواردة في الآية 39 من سورة آل عمران، حيث يقول الله تعالى (وسيداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين) أي اننا وهبنا لزکريا ولداً اسمه يحيى له ثلاثة صفات: سيداً، أي أن فيه صفات السيادة، حصوراً: أي ليس عنده رغبة بالنساء، فهي بمعنى من لا يأتي النساء، وتقال أيضاً لمن لا يتزوج، ونبياً من الصالحين.
فمن الطرف الاول يمدح بأنه سيد ومن الطرف الاخير يمدح بأنه نبي، وهذه صفات عالية، وفي الوسط أيضاً لابد أن يکون المقام مقام مدح، فيمدح يحيى(ع) بأنه حصور لا يأتي النساء أو لا يتزوج.
وعندما رأى بعض العلماء هذه الآية ولأجل الجمع بينها وبين الروايات التي تتحدث عن استحباب النکاح ذکروا أن ذلک مقيد بالشوق، فيستحب لمن تاقت نفسه.
فهل هذا هو معنى الآية؟ وهل أن "حصور" ينحصر معناها بما ذکر؟ ثم إن يحيى (ع) هل کانت له حياة خاصة؟ وهل يمکن سحب الشرائع السابقة الى شريعتنا؟
هذه کلها مسائل تطالعون حولها في التفسير والفقه لنبحثها يوم السبت إن شاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر ارواح العالمين له الفداء ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
تتمة البحث في مسألة نکاح الاقارب
قال الصادق (عليه السلام) :
مَنْ حَجَّ يُرِيدُ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لا يُرِيدُ بِهِ رِيَاءً وَ لا سُمْعَةً غَفَرَ اللَّهُ لَهُ الْبَتَّةَ
کسى که حجّ انجام دهد و خدا را اراده کند و قصد ريا و شهرت طلبى نداشته باشد قطعاً خداوند او را خواهد بخشيد.
وسائل الشيعة: 11/109
لا يوجد تعليق