بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر أرواحنا فداه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تتمة البحث في المسألة الأولى من مسائل تحرير الوسيلة:
کان الکلام في باب النکاح حول مسألتين من مسائل تحرير الوسيلة، هما المسألة الأولى والمسألة الثانية، والمسألة الأولى تبين في الواقع أهداف وأغراض النکاح، والمسألة الثانية تبين صفات الزوجة المنتخبة، ويمکن أن يقال بأن إحداهما بمثابة الکبرى وهي المسألة الأولى التي تتحدث عن لزوم إنتخاب الزوجة الصالحة والزوج الصالح لأجل النکات التي في الأحاديث الخمسة المذکورة في تلک المسألة، والأخرى بمثابة الصغرى وهي المسألة الثانية، حيث تبين فيها صفات الصلاح في کلٍ من الزوج والزوجة واحدةً واحدة.
تحليل حول المسألة الأولى:
وأکرّر ما قلته لکم من أن هذه المسألة سهلة من الناحية العلمية إلاّ أنها لما کانت من المسائل المهمة من الناحية الإجتماعية في زماننا فلابدّ لنا من الوقوف عندها أکثر لعلنا بذلک نستطيع أن نوجّه مجتمعنا باتجاه هذه البرامج الإسلامية إن شاء الله.
والنکتة التي ينبغي ملاحظتها في المسألة الأولى هي أن نرى أولاً الهدف من النکاح ثم بعد ذلک ننتخب ونحدد الصفات، حيث أن الصفات تتبع الأهداف والأغراض. فلو أن الإنسان أراد القيام بعملٍ معين يحتاج فيه إلى استئجار بعض العمال فإن عليه أولاً أن يضع البرنامج لعلمه ثم بعد ذلک ينتخب العمال الحائزين على الصفات التي تتوافق وإنجاز هذا العمل طبق البرنامج المحدد.
وقد مر معنا في الروايات التي قرأناها أن الهدف من النکاح هو بقاء النسل الصالح، ولأجل ذلک يلزم إنتخاب الأفراد الصالحين من الناحية الوراثية لتحقيق هذا الهدف، ولاشک في أن الأب والأم الصالحين يلدان أولاداً صالحين غالباً.
والعامل الوراثي کما أنه يؤثر في سلامة ومرض الجسد کذلک يؤثر في سلامة ومرض الروح. وهناک الکثير من الأمراض التي يصاب بها الإنسان يقول عنها الأطباء أنها من الأمراض الوراثية، مثل مرض السل والسکري أو الروماتيزم، وغير ذلک من الأمراض التي يقولون ان الوراثة هي إحدى الأسباب فيها. وأيضاً العامل الوراثي يدخل في کثير من الأمراض الأخلاقية مثل الخيانة والسرقة وغير ذلک من الإنحرافات.
إن قلت: انه يلزم من قولکم بتأثير العامل الوراثي في الأمور المذکورة الإعتراف بمذهب الجبر، إذ الولد الذي يکون سارقاً أو قاتلاً أو خائناً نتيجة عامل وراثي لأن أباه وأمه کانا غير صالحين إنما يکون کذلک بغير إختياره، وهذا هو مذهب الجبر.
وهذا البحث وإن کان محله علم الکلام إلاّ أننا نشير إليه هنا لأجل الفائدة فنقول:
الجواب: هو ما ذکرناه في مباحث علم الکلام من أن عامل الوراثة هو کعامل التربية والمحيط من قبيل المقتضي لا العلة التامّة، يعني ان أقصى ما يسببه هو الاستعداد في الولد لمثل هذه المسائل، ونمثّل لذلک بالمرض الجسماني، فالولد الذي يتولد من أبوين مصابين بالسل يکون مستعداً من الناحية الجسدية للإصابة بهذا المرض وربما کان حاملاً فعلاً للميکروب إلاّ أن ذلک ليس علة تامة لأن يصاب بمرض السل ويموت بسببه، إذ يمکن لهذا الولد إذا ما عولج عند طبيب مختص وتحلّى بالإرادة والتصميم أن يزول هذا الميکروب من بدنه ويعود بدنه صحيحاً معافى لا استعداد فيه لهذا المرض، أي يواجه المقتضي مانعاً يمنعه عن التأثير.
وفي الأمراض الأخلاقية الأمر کذلک، حيث أنه لا شک في أن للأب والأم دور في حصول الاستعداد لدى الطفل لأن يکون جانياً أو سارقاً مثلاً إلاّ ان ذلک ليس بنحو العلة التامة. ونحن نقول نفس هذا الکلام في باب ابن الحرام وابن الحلال، حيث نقول ان ابن الحرام يکون فيه استعداد للإنحراف إلاّ أنّ ذلک بنحو المقتضي لا العلة التامة، وکم من أولاد الحرام کانوا من العباد الصالحين.
إذن العامل الأساسي هو إرادة الإنسان واختياره، فيمکن أن يکون ابن "الشمر" صالحاً، وصحيح أن ظروفه سيئة وفيه استعداد للسوء إلاّ أن ذلک ليس بنحو العلة التامة بل بنحو العلة الناقصة، والعلة الناقصة يمکن إزالتها.
وقد ضربنا لذلک مثلاً في بعض الأوقات ـ وللمثال دور مؤثر جداً في تبيين المسائل خصوصاً لعامة الناس ـ هو: افرضوا أن هناک شخصين، أحدهما حائط بيته ملاصق لحائط المسجد والآخر بيته يبعد فرسخاً عن المسجد، ويمکن لکلٍ من هذين الشخصين أن يشارک في برامج المسجد وصلاة الجماعة والجمعة، إلاّ أن جار المسجد ظروفه مساعدة أکثر من صاحبه للمشارکة في هذه البرامج باعتبار قربه من المسجد، بينما صاحبه باعتبار بُعد المکان يحتاج إلى همّة أقوى للمشارکة.
وهنا نرى أنه لا الأول مجبور على المجيء إلى المسجد ولا الثاني مجبور على عدم المجيء، بل کل منهما مختار في أن يأتي أو لا يأتي. وهذا ما يقال له الاستعدادات والظروف والمقتضيات. ويقيناً اجرُ کلٍ منهما يختلف عن أجر الآخر، فذاک الذي هو أبعد يشمله (أفضل الأعمال أحمزها) بخلاف الأقرب.
فمن ليس عنده الإستعداد والمقتضيات الروحية والجسمانية للتربية الصالحة ومع ذلک يسلک طريق الصلاح فالله يعطيه على ذلک الأجر الجزيل، بينما الشخص الذي تولّد في عائلة مسلمة متدينة صالحة وکان صالحاً أجره يکون أقل بطبيعة الحال.
تأثير المحيط في شخصية الإنسان:
وهذا نظير ما يقال حول تأثير المحيط في وجود الإنسان، فالإنسان الذي يعيش في محيط سيئ وملوّث يتلوّن بلون هذا المحيط، إلا أن ذلک يبقى على مستوى المقتضي لا العلة التامة. والمحيط لا يکون في أي موردٍ علة تامة، کما الوراثة والتربية، هذه الأمور الثلاثة ـ التربية، المحيط، الوراثة ـ التي تشکل الإنسان وتسمى بمثلث الشخصية. وهذا المثلث دائماً يکون بحدّ المقتضي، والدور النهائي إنما هو لإرادة الإنسان التوأم مع الإختيار.
وبهذا البيان يمکن الإجابة على الکثير من الأسئلة وحل إشکالات الجبر والإختيار. وفي ما نحن فيه هذا الشخص لأجل بقاء النسل الصالح يلتمس الزوجة الصالحة، أي المرأة التي يکون استعداد الصلاح ومقتضياته فيها أکثر.
سؤال: إن ولد الزنا العلة فيه تکون تامّة باعتبار حرمانه من بعض المقامات والمناصب المعنوية؟
الجواب: ان الحرمان من المقامات المعنوية لا ارتباط له بالحرمان من النجاة يوم القيامة، فالأعمى مثلاً محروم من تولي بعض المناصب، والإنسان إذا کان فاقداً لبعض الصفات فإنه لا يمکنه أن يکون قاضياً مثلاً، فالمقامات الإجتماعية والصفات التي في القرآن لا ارتباط لها بمسائل السعادة والشقاء، وبحثنا إنما هو في مسائل السعادة والشقاء لا في المناصب الإجتماعية.
فالإنسان الذي ينسى کثيراً لا يمکنه أن يکون قاضياً حتى لو لم يرتکب آي ذنب باعتبار أن الحافظة الجيدة شرط من شروط القاضي.
حسناً، هذا کله کان في المرحلة الأولى والهدف الأول من أهداف النکاح آي بقاء النسل.
سؤال: العلل الناقصة عندما تضاف إلى بعضها تصبح علة تامة؟
الجواب: ان هذا السؤال قد اتضح جوابه في طيّ البحث السابق، وهو أن الجزء الأخير للعلة التامة هو إرادة واختيار الإنسان، ولا يمکن أن يکون الفعل إختيارياً إلا بهذا النحو، فالإنسان الذي يفقد أعصابه فتصدر منه أفعال معينة نتيجة ذلک هذه الأفعال تکون غير اخيتارية، إذاً الجزء الأخير للعلة التامة للأفعال الاختيارية هو الإرادة المقارنة للإختيار.
والآن ننتقل إلى المرحلة الثانية وهي تحت عنوان إنتخاب شريک الحياة الزوجية وهو ما وردت الإشارة إليه في روايات البحث السابق، حيث أُمرَ بالنظر إلى صفات هذا الشريک وهذا المستودع للأسرار وملاحظتها في عملية الإنتخاب. فشريک الحياة مثل شريک أي عمل ينبغي أن يکون أميناً نزيهاً تقيّاً وفيّاً صافي القلب محبّاً. فالهدف هنا والذي هو إنتخاب شريک الحياة يحرک الإنسان نحو صفاتٍ هي شرط في الشريک، وهي ما ذکرناه. وأمّا في المرحلة الثالثة فهناک أحاديث مرّت معنا سابقاً تقول: (إنّ المرأة قلادة فانظر ما تتقلد)، وللقرآن الکريم أيضاً تعبيرٌ جميل جداً في هذا المجال حيث يقول: (هُنّ لباسٌ لکم وأنتم لباسٌ لهنّ) وفي اللباس فوائد عديدة للإنسان منها: أنه زينة للإنسان، حيث أن الانسان بواسطة لباسه يحصل على الزينة والأبهة والمکانة الاجتماعية، ومنها: أنه يقي الإنسان من الحر والبرد والآفات المختلفة، فلو أن الإنسان ارتدى لباساً قصيراً وخرج من المنزل فإنه حينما يعود سيلاحظ أنه قد اصيب الجزء المکشوف من بدنه بجراحات أو أوساخ وما شاکل. فبدن الإنسان ضعيف أمام الأخطار، واللباس يقوم بمهمة المحافظة عليه أمام الکثير من هذه الأخطار.
والآية تقول: (هنّ لباسٌ لکم وأنتم لباسٌ لهنّ) يعني أنتم زينة لنسائکم وهنّ زينة لکم، أنت حماة لنسائکم وهنّ حماة لکم، وانتم تدفعون الأذى عن نسائکم وهن يدفعن الأذى عنکم، فالآية الشريفة فيها الکثير من المعاني. حسناً، فإذا أراد الإنسان ان ينتخب شخصاً ليکون زينةً ومحامياً ومدافعاً عنه فأي صفات ينبغي له أن يلاحظ في هذا المجال؟
الخلاصة:
وخلاصة البحث هي: أن الهدف من النکاح في المرحلة الأولى هو بقاء النسل، وفي المرحلة الثانية هو إنتخاب شريک الحياة، وفي المرحلة الثالثة الهدف هو إنتخاب المدافع والزينة والمحامي.
ومن العجيب أن بعض الناس نراهم يدققّون في شراء قميص يلبسونه ستة أشهر أو سنة على الأکثر بينما في إنتخاب الزوجة التي هي غالباً لباسٌ دائم للإنسان يلبسه مرّة واحدة في أول عمره ولا يخلعه إلاّ في آخره نرى أنه لا يدقّق ذاک التدقيق الذي دققه عند شراء القميص، حيث أنه إذا أراد أن يشتري قميصاً فإنه يسأل من هذا وذاک ويدور على عدّة محلاّت ولا يتسرع في الإنتخاب لوحده، أمّا إذا أراد أن يتزوج فإنه يلاحظ المسائل الظاهرية فقط وينسى الجوانب المهمة.
ولي في المقام کلام أرجو أن تبلغوه للشباب في المجتمع وهو:
إن أکبر اشتباه يقع فيه الشاب أو الفتاة هو في إنتخاب الشريک من غير مشورة، ونحن قد رأينا الکثير من النماذج من هذا القبيل، فبعض الشباب بمجرد أن يرى فتاة في مکان من الأمکنة فإنّه يصمّم على الزواج منها ويصرّ على ذلک حتى لو خالفه الجميع. وهذا هو منشأ الإشتباه والخطأ، فالشاب تبعاً لإحساسات الشباب فيه يصمّم بسرعة، وهذا يشکّل خطراً کبيراً على الشباب في مجال انتخاب شريک الحياة، فعليهم أن يشاوروا في ذلک ويدققوا ويدرسوا المسألة من جميع جوانبها ولا يعجلوا في الإنتخاب.
وعلى أي حال فهذه مسائل مهمة ينبغي مراعاتها في مجتمعنا، وإلا فإن نسبة الطلاق سوف تزيد، ولا ينبغي أن تزيد نسبة الطلاق في الجمهورية الإسلامية، ويقول أهل الإحصاء أن نسبة الطلاق قد زادت في السنوات الأخيرة، لماذا؟
لذلک عوامل کثيرة منها ما ذکرته لکم من الإنتخاب العجول ومن دون مشورة ودراسة. وهناک أيضاً عوامل أخرى.
وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطاهرين
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر أرواحنا فداه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الإمام عليٌّ(عليه السلام)
مِنْ أحسَنِ الإحسانِ الإيثارُ
از بهترين نيکوکاريها ايثار است
ميزان الحکمه، جلد 1، ص 22
لا يوجد تعليق