بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر ارواحنا فداه ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
معنى کلمة (النکاح)
النکتة الرابعة التي بقيت من نکات مبحث مقدمات النکاح هي في تفسير کلمة (النکاح)، فما هو معنى النکاح لغة؟
ونحن ندخل هذا البحث لکي يتضح معنى هذه الکلمة التي وردت کثيراً في القرآن والاحاديث ولنعلم المقصود منها فيما لو تجردت عن القرائن الحالية والمقامية. وهذا البحث من موارد الابتلاء الشديدة، وينبغي أن يعلم أن هناک خلافاً شديداً في تفسير هذه الکلمة بين اللغويين وأيضاً بين الفقهاء.
وفي الواقع يدور البحث حول معان أربعة:
المعنى الاول: إن النکاح حقيقة في العقد، أي في اجراء الصيغة.
المعنى الثاني: إنه حقيقة في المواقعة الجنسية، أي الوطي.
المعنى الثالث: إنه مشترک بين المواقعة والعقد.
المعنى الرابع: إنه ليس معنى حقيقياً في أي من المعاني السابقة بل هو مجازي فيها ومعناه الحقيقي إنما هو الاختلاط، فيقال: نکح المطر الارض، أي اختلط معها، ثم استعملت هذه الکلمة في المسائل المربوطة بالزواج بمناسبة ان به يحصل اختلاط بين افراد الانسان.
وقد قيل أيضاً أن معناه الحقيقي هو (الملاقاة) فيقال: تناکح الجبلان، إذا التقيا.
وايضاً قيل أن معناه الاصلي هو (الانضمام) حيث يقال: تناکحت الاشجار إذا ضمّ بعضها الى بعض.
اذاً القول الرابع يرجع المعنى إما الى (الاختلاط) وإما الى (الالتقاء) وإما الى (الانضمام).
وعلينا أن نبحث لنرى ما هو الحق من هذه المعاني، وبداية انقل لکم أقوال ثلاثة من أئمة اللغة المشهورين ثم أقوال عدة من فقهاء الشيعة والسنة المشهورين، وبعد ذلک نحکم بين هذه الاقوال. وکما ذکرت لهذه المسئلة آثار فقهية متعددة منها:
بيان الاثر الفقهي للبحث
ما يذکر في قوله تعالى {ولا تنکحوا ما نکح آباؤکم} من أنه إن کان معنى النکاح هو العقد فقط فإن معقودة الاب تکون محرمة أبداً على الابن ولو لم يطأها الاب، وبهذا يسهل حصول المحرمية بين الرجل والبنت الاجنبية التي يتبناها کأبنة له، وذلک بأن يعقد عليها أبوه فتصبح زوجة لأبيه فتحرم عليه.
وأما إن کان معناه هو الوطي فإن هذه الآية تکون شاملة حتى للمرأة التي زنى بها الاب، وأما إن کان معناه القدر المشترک من الوطي والعقد فإنه حينئذ يصير أعم يشمل کلا الموردين السابقين ويوجب الحرمة الابدية فيهما. وأما أقوال أئمة اللغة فهي:
کلام الراغب الاصفهاني في المفردات
وکتاب المفردات من الکتب اللغوية الجيدة والتي يلاحظ فيها الجانب التفسيري أيضاً، ويذکر الراغب في هذا الکتاب: (إن أصل النکاح للعقد ثم استعير للمواقعة، ومحال أن يکون في الاصل للمواقعة) ولماذا يستحيل أن يکون کذلک؟
يذکر الراغب في ذيل کلامه أن العرب لأجل حيائهم في هذه المسائل لم يضعوا ألفاظاً لها أصلاً وإنما کانوا يعبرون عنها بنحو الکناية کما في قوله تعالى: {أو لامستم النساء}، والتعبيرات الاخرى هي أيضاً من هذا القبيل، فلم يوضع الفاظ صريحة تدل على هذا المعنى لأجل شدة حياء العرب.
اذاً الراغب يقول: أن المعنى الحقيقي للنکاح هو العقد، والمواقعة هي معنى کنائي له.
کلام الجوهري في صحاح اللغة
وکتاب صحاح اللغة من المصادر اللغوية المعتبرة والمعروفة، ويذکر الجوهري أن لفظ النکاح مشترک بين العقد والوطي، وظاهر کلامه أنه مشترک لفظي، حيث قال: (النکاح الوطي وقد يکون العقد)، فيعلم أنه يرى أن المعنى الاصلي للنکاح هو الوطي، والعقد إنما هو معنىً ثانٍ له.
اذاً الجوهري يقول بأنه معنى مشترک، أو يقول بأنه حقيقية في الوطي مجاز في العقد.
کلام الفيومي في المصباح المنير
يقول الفيومي في کتابه المصباح المنير: (مأخوذ من نکحه الدواء إذا خامره وغلبه، أو من تناکحت الاشجار إذا ضم بعضها الى بعض، أو من نکح المطر الارض إذا اختلط بترابها، وعلى هذا يکون مجازاً في العقد والوطي جميعاً) فهو يقول: أنه معنى مجازي في کل من الوطي والعقد وأما المعنى الحقيقي فهو شئ آخر مأخوذ من معنى الغلبة أو الانضمام أو الاختلاط المستفادة من التعابير التي ذکرها.
وکما تلاحظون کل من هؤلاء الاعلام الثلاثة إختار مذهباً في معنى النکاح، فالاول قال: أنه حقيقة في العقد، والثاني قال: أنه مشترک بين العقد والوطي، والثالث قال: أنه مجاز في کليهما. وأيضاً غيرهم من اللغويين وقع بينهم نفس هذا الاختلاف.
والآن لننتقل الى کلام الفقهاء لنرى ما يقولون في هذه المسألة.
کلام العلامة النراقي في مستند الشيعة
وفي الجزء 16 الصفحة 9 من کتاب مستند الشيعة يقول العلامة النراقي(قده): (وهو باللغة عقد التزويج خاصة على الاصح لتبادره عرفاً) حيث أن التبادر العرفي هو من علائم الحقيقة والمجاز (وأصالة عدم النقل حيث أنه إذا احتملنا أن المعنى انتقل شرعاً الى شئ آخر غير ما کان عليه في اللغة فالاصل هو عدم النقل وبقائه على معناه اللغوي.
ثم يجيب (قده) على إشکال مقدر مفاده: إن العقد في الاسلام شئ حادث لم يکن موجوداً قبل ذلک بأنه (وکون العقد مستحدثاً ممنوع بل لکل دين وملة عقد) فعقد النکاح موجود عند الجميع المسلم والکافر، المتدين والشيوعي، وغير صحيح ما يقال من أن الشيوعيين ليس عندهم عقد نکاح، غايته أن عقدهم يکون بشکل آخر، فهم يذهبون الى مکتب خاص بأمور الزواج فيسجلون أسماءهم هناک ثم يوقع کل من الزوج والزوجة في ذلک الدفتر، وهذا يعتبر عقداً عندهم. اذاً کل ملة عندها عقد، إلا أنه يختلف من ملة لأخرى، فبعض عندهم العقد الشفهي، وبعض آخرون عندهم العقد الکتبي، وآخرون عندهم المراسم الکنسية، الى غير ذلک من طرق لعقد الزواج. ثم في تتمة کلامه يقول (قده): (وقيل إنه حقيقة بالوطي خاصة، بل هو الاشهر، بل عليه الاجماع کما عن المختلف. وقيل حقيقة فيهما لإستعماله فيهما) حيث ان بعض العلماء کالسيد المرتضى (قده) يرون أن الاستعمال من علائم الحقيقة، وأما العلماء المتأخرين والمعاصرين فجميعهم يعتقدون بأنه ليس کذلک، إذ الاستعمال قد يکون حقيقياً وقد يکون مجازياً، أي هو أعم. فيعلم أن النراقي (قده) يشير الى هذه المسألة. ثم يقول (قده): (وقيل مجاز کذلک) أي فيهما (لأخذهما من الضم والاختلاط والغلبة) فيکون استعمال النکاح في العقد والوطي مجازي، لن کلاً منهما قد أخذ من معنى ثالث (ويرد بعدم ثبوت المأخذ) أي ويرد القول بأنه مجاز فيهما بعدم ثبوت المأخذ.
کلام الشهيد الثاني في المسالک
يقول الشهيد الثاني في المجلد الاول ـ الطبعة القديمة ـ من المسالک الصفحة 430: (إعلم أن النکاح يستعمل لغة في الوطي کثيراً وفي العقد يستعمل بقلة) وهذا على عکس ما ذکره النراقي (قده) حيث قال إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطي (قال الجوهري: النکاح الوطي وقد يقال للعقد، وشرعاً بالعکس) ويلاحظ أن الشهيد الثاني (قده) يفرّق بين معناه لغة ومعناه شرعاً، حيث أنه في اللغة کثيراً ما يستعمل في الوطي وفي العقد يستعمل بقلة، بينما في الشرع الامر بالعکس (ويستعمل بالمعنيين إلا أن استعماله في العقد أکثر، بل قيل إنه لم يرد في القرآن بمعنى الوطي إلا في قوله تعالى {حتى تنکح زوجاً غيره} لإشتراط الوطي في المحلل) أي عندما تطلّق الزوجة ثلاث مرات فإنه لا يجوز لها الرجوع الى زوجها إلا بعد أن {تنکح زوجاً غيره}، أي ان تتزوج ويواقعها زوجها الثاني ثم بعد ذلک يطلقها، حينئذ يمکنها أن ترجع الى زوجها الاول بعقد جديد (وفيه نظر لجواز ارادة العقد) في الآية (واستفادة الوطي من السنة) أي أن الآية تکون بمعنى العقد وأما شرطية المواقعة فإنها تستفاد من الروايات.
کلام ابن قدامة في المغني
يقول ابن قدامة في المجلد 7 الصفحة 333 من کتابه المغني: (النکاح في الشرع هو عقد التزويج، فعند إطلاق لفظه ينصرف إليه ما لم يصرفه عنه دليل) ثم في ذيل کلامه يستدل على أنه قد استعمل غالباً بهذا المعنى في الکتاب والسنة ولسان أهل العرف.
والنتيجة هي أنه يستفاد من کل ما ذکرناه من کلمات اللغويين والفقهاء وغيرها مما ستطالعونه ان هناک أربعة أقوال في معنى النکاح هي:
1 ـ حقيقة في العقد 2 ـ حقيقة في الوطي 3 ـ حقيقة فيهما 4 ـ مجاز فيهما. وأن هناک خلافاً شديداً في معناه بين اللغويين وأيضاً بين الفقهاء. وما يهمنا فعلاً ليس هو المعنى اللغوي بل المعنى الشرعي.
معنى النکاح في الشرع
ونحن عندما نبحث في المعنى الشرعي للنکاح لا نريد أن ندعي أن النکاح حقيقة شرعية، بل نريد أن نرى أنه شرعاً الى ماذا ينصرف.
وکما تعلمون فإن للحقيقة علامات أربع منها (الإطّراد)، والبعض لم يقبل هذه العلامة إلا اننا نقول بها، فنحن نقول: إنه إذا استعمل لفظ غالباً فيي معنى من المعاني وکان استعماله مطرداً وکثيراً وشائعاً فإن ذلک يکون علامة على الحقيقة، والعقلاء هذا هو حالهم غالباً، فعندما يريدون أن يثبتوا حقيقة معنى للفظ نراهم ينقلون عدة أشعار أو کلمات تثبت أن العرب استعملوا هذا اللفظ في هذا المعنى. ونحن لا نقول أن مجرد الاستعمال دليل على الحقيقة بل نقول: إن الاستعمالات الکثيرة دليل على الحقيقة.
وعندما ترجع الى القرآن الکريم نجد أنه قد وردت فيه کلمة النکاح بإشتقاقاتها المختلفة في ثلاثة وعشرين مورداً، وفي کل هذه الموارد استعملت بمعنى العقد، وغالباً ما يکون هناک قرينة على ذلک، يعني يطّرد استعمال النکاح في القرآن في العقد. فالمعنى يکون حقيقياً ولو أنه أصبح کذلک من کثرة الاستعمال مع القرينة. وإليکم بعض هذه الموارد:
1 ـ الآية 49 من سورة الاحزاب {إذا نکحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} وکلمة "نکحتم" اشارة الى العقد إذ الوطي لا طلاق فيه.
2 ـ الآية 3 من سورة النساء {وانکحوا ما طاب لکم من النساء مثنى وثلاث ورباع} و"انکحوا" هنا بمعنى العقد من دون أي شک، إذ العقد هو الذي ينحصر في الاربع.
3 ـ الآية 235 من سورة البقرة {ولا تعزموا عقدة النکاح} وإضافة "عقدة" فيها الى النکاح من قبيل إضافة العام الى الخاص، أي عقد النکاح، وهناک عقد البيع، عقد المضاربة، عقد الاجارة. فمع إضافة "عقدة" الى النکاح يتضح أن المقصود به هنا هو العقد.
وللفقهاء تعبير آخر هو: العقد السببي ـ العقد المسببي. والعقد السببي هو الالفاظ، والعقد المسببي هو ذاک العهد والاتفاق الاعتباري الذي يحصل في عالم الاعتبار، فنحن حينما نستعمل هذه الالفاظ: زوجت موکلتي من موکلي فلان، هذا يکون عقداً سببياً، أي صيغة العقد، ثم بعد ذلک ما يصدق بين الزوج والزوجة بالظن الاعتباري العقلائي الشرعي يکون مسببياً.
اذاً عقدة النکاح هي من قبيل إضافة السبب الى المسبب، أو إضافة العام الى الخاص.
4 ـ الآية 237 من سورة البقرة {إلا ان يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النکاح} والکلام فيها کالکلام فيما سبقها من انها إما بنحو إضافة العام الى الخاص، وأما بنحو إضافة السبب الى المسبب.
الى غير ذلک من الموارد الاخرى التي وردت فيها کلمة النکاح بمعنى العقد، إلا مورداً واحداً وهو ما مر في کلام المسالک من قوله تعالى {حتى تنکح زوجاً غيره} البقرة 230 ـ حيث قيل إنه بمعنى الوطي، وقد مرّت مناقشة الشهيد لذلک.
والخلاصة هي أنه لو استعمل لفظ في معنى مائة مرة مثلاً مع القرينة فإنه تنشأ جرّاء ذلک علاقة خاصة بين هذا اللفظ والمعنى بحيث يکون له ظهور فيه حتى لو استعمل من دون قرينة، وهذا المطلب قد ذکرناه في بحث الإطراد، حيث قلنا بأن المعنى ينتقل الى المعنى المستعمل فيه کثيراً حتى لو کان مع القرينة، ويکون إما معنىً حقيقاً أو منصرفاً إليه.
اذاً کلمة النکاح في القرآن الکريم إما في کل الموارد وإما في أکثرها وردت بمعنى العقد، ثم ألا ينشأ من ذلک أنسٌ ذهني بين هذا اللفظ وهذا المعنى؟
وفي غد نتعرض إن شاء الله للروايات لنرى أنه هل استعملت فيها کلمة النکاح بمعنى الوطي، أم أنها غالباً کانت بمعنى العقد، بحيث يمکننا حينئذ أن نحصل الظهور من تتبع موارد الاستعمال.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله الطاهرين، لا سيما بقية الله المنتظر ارواحنا فداه ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
الامام علي (ع)
الصيام احد الصحتين
روزه نيمي از تن درستي است
ميزان الحکمة 6 / 392
لا يوجد تعليق